كره العرب للموهوبين والأذكياء

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما حلق يوري جاجارين في اول كبسولة صغيرة حول الارض في 12 ابريل 1961 وعاد الى الأرض، تحول هذا الرجل قصير القامة الى ايقونة يحلم بها اطفال الاتحاد السوفييتي. الانجاز والبريق الاعلامي اللاحق قد يكون أحد الاسباب التي دفعت بيوري جاجارين لكي يصبح حلماً لأطفال بلاده، لكن من المؤكد ان البريق الاعلامي يقف خلفه إنجاز كبير وقصة لمسيرة طويلة قد تبدو اليوم قصة مدرسية مملة للكثيرين.

ماذا تتوقعون اليوم لو أجري استطلاع للرأي وسط الشباب والأطفال من الجنسين يسألهم سؤالا واحداً: من هو مثلكم الذي تحلمون ان تكونوا مثله في المستقبل؟

بإمكاني ان اقترح دون تجنٍ قائمة من الأسماء الرنانة في مجالات شتى، وجل ما سيجمع هذه الاسماء هو انهم من اصحاب الملايين. فعلى مدى السنوات الماضية، لم أقرأ مقابلة او حديثا يتضمن هذا السؤال إلا ووجدت الصغار يشيرون الى نماذج احلامهم من اصحاب الملايين. هل نحتاج لقراءة الصحف والمجلات لكي نعرف ماذا يفكر فيه الصغار؟

المصرفيون الكبار، اصحاب الشركات، العصاميون الذين بنوا ثرواتهم بمشاريع صغيرة.. ليس هناك اي غضاضة في احلام كهذه، لكن لماذا لا نجد ايقونات مثل العلماء والمخترعين؟

قد يجيب احد الصغار من المجتهدين في المدرسة او من اولئك الذين يداومون في المراكز العلمية او من اصحاب الهوايات النادرة بأنه يحلم بأن يكون مثل العالم المصري أحمد زويل. لكن ماذا سيحدث لهذا الصغير الموهوب عندما يتخرج؟

سؤال ايقظته سطور تفيض بالمرارة كتبها الزميل احمد حسن الزعبي في الزميلة "الامارات اليوم" في مقاله المعنون "حسبي الله ونعم الوكيل".(25 اكتوبر 2012). وفيه اورد الزميل امثله لزملاء موهوبين وأذكياء في المدرسة انتهى الحال بأحدهم الذي كان "عبقريا" في الرياضيات الى ان يعمل مخلصاً. والثاني الموهوب في الفيزياء انتهى الى ان يدير محلا للحوم المثلجة والمخللات حسب الزميل.

لدي من القصص مثلها وأكثر، ولكل واحد منكم قصص مشابهة والعبرة ستبقى: ماذا يفعل العرب بالموهوبين والأذكياء؟

لا شيء باختصار شديد. يذهب الطلاب الى المدارس وتكرر على اسماعهم ليل نهار نصائح وأوامر تحثهم على التفوق، لكن ماذا سيدور في ذهن الصغار وهم يرون من حولهم واقعاً لا يرسخ في اذهانهم إلا أمراً واحداً: ان التفوق والذكاء والكفاءة ليس هو المطلوب في الحياة العملية بل ان الكفاءات تصبح فائضة عن الحاجة في الكثير من البلدان والمجتمعات.

والسؤال المتكرر الى حد الضجر هو: لماذا يذهب علماء مثل احمد زويل الى الغرب وينجح هناك؟ مثل زويل ثمة ان لم يكن الالاف ممن هاجروا الى الغرب ونجحوا هناك ولو انهم بقوا في بلدانهم لتخلوا عن احلامهم بدافع اليأس وامتهنوا مهناً لا صلة لها بالابتكار والاختراع ولا بالعلوم؟ ولكررنا نحن في مقالاتنا سؤالا مضجراً آخر هو: لماذا لا تهتم الحكومات العربية بالنابغين والموهوبين من الطلاب؟ وبمزيد من الضجر والتفجع سنسأل: أين هي مراكز الابحاث في الدول العربية؟

اكتب هذا وأنا اعيش في الامارات منذ عامين وألاحظ التالي: ان هناك مراكز لدعم ورعاية الموهوبين. أن ثمة طلابا وطالبات من الامارات يبتكرون اختراعات تستفيد منها شركات عالمية. ان هناك معاهد علمية تدفع رواتب لطلابها وتزيد الراتب للمتفوقين منهم.

أن هناك مؤسسات تعمل في ميادين علمية تسعى لاستقطاب المتفوقين من الطلاب وابتعاثهم وتأهيلهم. أن هناك إلحاحاً على تأهيل المواطنين في ميادين علمية شتى تبدأ بالطب ولا تنتهي بالفضاء والفيزياء النووية.

ومن المؤكد ان ثمار هذه التوجهات ستتضح بعد سنوات بفعل التراكم. وسيبقى المطلوب هو المضي قدما لتطوير تجربة رعاية الموهوبين والكفاءات وليس التوقف، فهذا هو المعنى الوحيد للتطور.

الفارق سيبقى كبيرا لا في ميدان العلوم والابتكارات فحسب بل في مجالات شتى. فعندما لا نجد ممن نطلق عليهم خبراء اقتصاديين اكثر من مشروعات قائمة على المضاربة، سنستذكر حتماً اقتصاديا مثل المصري طلعت حرب لكي نلمس الفارق بين ان تؤسس بنية تحتية اقتصادية وصناعات وإنتاج وبين ان يصبح الاقتصاد والتجارة جملة من العروض الترويجية التي لا تستهدف سوى جني الاموال عبر مداعبة احلام الثراء والى الجحيم بالإنتاج والمشقة والتعب والمثابرة.

أمثولة يوري جاجارين وغزو الفضاء لم تطرح بسبب بقايا نزعات يسارية كما قد يتبادر الى ذهن البعض ممن اعتاد (على جاري طريقة العرب) الاستخفاف عندما لا يملك الحجة، بل لقيمة الانجاز نفسه ومدلوله: ان يتحول بلد كان حتى قبل عقود من ذلك الحدث بلدا زراعياً وبعدها بسنوات خارجاً من حرب مدمرة راح ضحيتها 10 ملايين روسي.

العبرة هنا واضحة: "المثابرة". فيوري جاجارين كان يعمل في مصنع للحديد والصلب ومن هناك تم اختياره لكي يدرس في معهد للتكنلوجيا وتعلم الطيران بدافع الهواية قبل ان يلتحق بسلاح الطيران في الجيش. أما انجاز الدوران حول الأرض فقد كان ثمرة عمل مثابر وطويل وبداية ستغير وجه التاريخ في القرن العشرين الماضي الى يومنا هذا.

أحمد زويل لم يطرح اسمه اعتباطا أيضا، بل لأنه يلخص المأساة كلها بوجوده في الولايات المتحدة لا في مصر، وانجازه الرائد وعبارته عندما يقول: "إن الاوروبيين ليسوا أذكى منا، لكنهم يقفون ويدعمون الفاشل حتى ينجح أما نحن فنحارب الناجح حتى يفشل".

 

Email