رسالة من أميركا اللاتينية

ت + ت - الحجم الطبيعي

مع نهاية كل عام دراسي تخرج الجامعات في معظم بلدان العالم الثالث وبينها بلدان عربية المئات من حملة البكالوريوس في مختلف التخصصات لينضموا إلى صفوف البطالة المتعاظمة. لكن البطالة ليست الظاهرة الوحيدة المشتركة بين هذه الدول. من المكسيك إلى باكستان مروراً بالمغرب وغالبية الدول الإفريقية جنوب الصحراء تتشابه ظواهر أخرى إلى درجة التماثل الكامل:

بؤس معيشي ناشئ عن معدلات غلاء فاحش يزيد ولا ينقص.. وهو بدوره ناتج عن حالة شح فرض في أرصدة النقد الأجنبي لأن القسم الأعظم من دخل الدولة بالعملات الأجنبية يذهب إلى مواصلة سداد ديون خارجية لمؤسسات وشركات غربية من ناحية وإلى عمليات نهب منتظم من شبكات رجال الأعمال ورموز السلطة العليا.

ويتبع ذلك تدهور شامل في خدمات التعليم والصحة. ومع مرور السنين تتوسع فوارق الدخل بين شريحة طبقية عليا والأغلبية التي تمثلها فئات الطبقات الأخرى الفقيرة من ذوي دخول محدودة تتدهور قوتها الشرائية مع تدهور قيمة متواترة في قيمة العملة الوطنية.

هذه التفاصيل تندرج تحت عنوان واحد "نظام اقتصاد السوق الحر". والسؤال الكبير الذي ينبغي أن يُطرح هو: هل هناك بديل أفضل؟

نجد إجابة عملية بالإيجاب الكامل في نموذج فنزويلا بزعامة حزب الرئيس هوغو شافيز.

النموذج الفنزويلي هو الآن الأشد بروزاً بين نماذج مماثلة تتجلى في أكوادور وبوليفيا والبرازيل والأرجنتين وتتميز بنجاح اقتصادي واجتماعي كاسح وشامل بعد التوصل بقناعة نهائية بسيطرة الدولة على حركة الاقتصاد الوطني بعد نبذ نهج اقتصاد السوق الحر.

خلال العقد الزمني الأخير ظلت أميركا اللاتينية تعيش تحولاً حاسماً يتمثل في تيار تقدمي أتى بسلسلة من حكومات اشتراكية صعدت إلى السلطة عن طريق انتخابات حرة في إطار نظام ديمقراطي تعددي. وفي هذا السياق أعادت هذه الحكومات توزيع الثروة لصالح الأغلبية الاجتماعية ونبذت النهج الاقتصادي الغربي وتحدت النفوذ الأميركي العالمي.

في أحدث التطورات حقق حزب شافيز في فنزويلا نصراً للمرة الثانية في انتخابات برلمانية كان زعيم الحزب المنافس الذي يتبنى نظام اقتصاد السوق وسياسة خارجية موالية للولايات المتحدة ومصالحها أول من أقر بنزواتها.

ولم يكن هذا الانتصار الانتخابي بلا مبرر موضوعي. فقد طبق شافيز وحزبه برامج اجتماعية أدت إلى تقليص الفقر وعدم المساواة بعد أن فرض سيطرة الدولة على موارد الثروة الوطنية لصالح أغلبية المجتمع. ومن ناحية أخرى انتهج حزب شافيز سياسة خارجية مستقلة ومستوحاة من مصالح الدولة الفنزويلية وشعبها.

نفهم إذن لماذا ووجه شافيز وحزبه بعداء أميركي شامل بلغ ذروته بمحاولة انقلابية عسكرية فاشلة كانت مدعومة أميركياً.

ونفهم كذلك لماذا يشن الإعلام الغربي حملة ضارية لا تتوقف لتشويه صورة الوضع في فنزيلا في عهد شافيز، علماً بأن إنجازات الزعيم الفنزويلي أدت إلى تخفيض الفقر بنسبة النصف وخفض "الفقر المدقع" بنسبة 70% وتوسيع الخدمات المجانية في مجالي التعليم والصحة ورفع الحد الأدنى للأجور بنسبة أسطورية مع خفض بنسبة أسطورية أخرى في معدل البطالة وذلك بتوفير فرص توظيفية متجددة سنوياً ومتصاعدة في سوق العمل.

وصفوة القول إن فنزويلا ووصفاءها من دول أميركا اللاتينية الأخرى أثبتت عملياً أن لنظام اقتصاد السوق الحر المطبق في معظم دول العالم الثالث بديلاً جيداً ومحترماً إذا توفرت إرادة شعبية قوية تفرز زعامة راديكالية تتمتع بأعلى درجات الإحساس الوطني. وبكلمة واحدة أثبتت هذه الدول أيضاً أن من الممكن أن تكون الدولة تقدمية وديمقراطية في الوقت نفسه.

ربما يعيد هذا النموذج إلى أذهاننا الزعامة الناصرية في العالم العربي التي سادت في عقدي الخمسينات والستينات. لكن علينا أن نستذكر أنه بينما اقتضت ظروف العالم العربي في ذلك الحين أن ينتهج عبدالناصر منهجاً أوتوقراطياً من أجل تطبيق العدالة الاجتماعية، فإن نموذج أميركا اللاتينية يتميز عليه بنهجه الديمقراطي التعددي.

من وجهة نظر الولايات المتحدة يعتبر هذا النموذج الأميركي اللاتيني خطيراً لأنه يشكل سابقة ملهمة لشعوب العالم الثالث للتحرك في اتجاه الاستقلال الحقيقي.

 

Email