الناقص في الخطاب الشامل

ت + ت - الحجم الطبيعي

للمرة الثانية خلال عامين، يعتلي الرئيس الفلسطيني محمود عباس منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، مطالباً العالم في الأولى الموافقة على منح دولة فلسطين مقعداً كامل العضوية في المنظمة الأممية، وفي الثانية بدولة غير عضو، الأمر الذي في حال نجاحه، يقدم مؤشراً على وقوع تبدلات في السياسة الفلسطينية الرسمية.

وكما في المرة الأولى قبل عام، حظي خطاب الرئيس الفلسطيني بدعم واسع من قبل رؤساء وزعماء وممثلي غالبية الدول، عبر هذا الدعم بالتصفيق مراراً، عن تأييد المجتمع الدولي للحقوق الفلسطينية. وفي المقابل ولسوء حظه، جاء خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، مباشرة بعد خطابه بالحد الأدنى من الاهتمام.

الخطابان الفلسطيني والإسرائيلي، أظهرا عملياً، التناقض الواسع بين الأول الذي يشكو الاحتلال أيما شكوى، ويعلن التزامه بالسعي من أجل تحقيق السلام، وبين الثاني الذي يعطي الأولوية المطلقة تقريباً للملف النووي الإيراني، ويخلو من الحد الأدنى من الاهتمام بعملية السلام، والتي اختصرها نتنياهو بجملة تحمل معاني التحذير للفلسطينية من أنهم لن يحصلوا على الدولة، من خارج إطار وسياق المفاوضات.

يستنجد الرئيس الفلسطيني بالمجتمع الدولي، مطالباً الانتصار للقرارات الدولية والحقوق الفلسطينية التي تهددها وتشجبها إسرائيل، فيما يستنجد نتنياهو بالولايات المتحدة الأميركية التي لم تخذله حتى الآن، والتي عليها يعتمد لإفشال المسعى الفلسطيني الذي يأخذ شكلين، الأول الانتقال بالملف إلى الأمم المتحدة بعد أن يئس من آلية الرباعية الدولية، لكن بدون التخلي عنها، والثاني، تغيير وضعية فلسطين في المنظمة الدولية إلى دولة غير عضو، الأمر الذي يؤدي إلى تغيير قواعد الصراع السياسي مع دولة الاحتلال.

على أن المسعى الفلسطيني بشقيه لا يزال يعتريه التردد، فلقد جاء خطاب الرئيس موضوعياً إلى حد التطرف في وصفه السياسة الإسرائيلية، التي تتميز بإرهاب الدولة، والتحريض الديني، ومصادرة الأرض والحقوق الفلسطينية، والتمييز العنصري، بما قد يؤدي إلى وقوع نكبه جديدة لن يسمح الشعب الفلسطيني بوقوعها، فيما جرى تأجيل تقديم الطلب وفق الآليات المعتمدة إلى ما قبل نهاية هذا العام.

من الواضح أن الرئيس عباس توخى إظهار توازن دقيق، فهو قد هاجم بعنف السياسة الإسرائيلية كما لم يفعل من قبل، وأظهر بأس الفلسطينيين من إمكانية استئناف المفاوضات، ونجاح عملية السلام، ومن ناحية أخرى، أبدى استعداداً لمنح الولايات المتحدة فرصة أخيرة، واستجاب لضغوطها حتى لا يتم تقديم الطلب بدولة غير عضو قبل الانتخابات الرئاسية التي ستقع في أوائل نوفمبر المقبل.

في الواقع فإن الولايات المتحدة، كانت ولا تزال وستبقى تقاوم خروج الفلسطينيين عن الإطار والآليات التي جرى اعتمادها منذ تسعة عشر عاماً. كما قال الرئيس عباس بأنها لم تؤد إلا إلى التغطية على السياسات الاستيطانية التي تمعن في توسيع وتكثيف الاستيطان، وتهويد القدس.

وكما يتضح من وثيقة أميركية موجهة للاتحاد الأوروبي، لكي تمتنع عن تأييد الطلب الفلسطيني، ولذلك كان على القيادة الفلسطينية أن لا تستجيب للضغوطات الأميركية، طالما أن الموقف الأميركي لن يتغير في كل الأحوال والأوقات.

لقد تميز خطاب عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بجرأة عالية، وبتحذيرات لا تخطؤها القراءة السطحية للخطاب، من أن الفلسطينيين يتجهون نحو اعتماد خيارات واستراتيجيات جديدة تخرج عن المألوف الذي تعودته إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة، هذه التحذيرات وصلت إلى إسرائيل قبل أن تصل إلى أطراف الانقسام الفلسطيني، الأمر الذي قابلته السلطة الفلسطينية، بطلب الحماية من قبل الأمم المتحدة.

وعلى الرغم من أن وزير الدفاع الإسرائيلي ايهود باراك، كان قد نفى أن تكون تصريحات ليبرمان معبرة عن الموقف الرسمي للحكومة، فإن الفلسطينيين الذين خبروا الألاعيب الإسرائيلية، لا يستبعدون من قام باغتيال الزعيم الراحل ياسر عرفات، لأن يكرر جريمته بطرق أخرى للتخلص من الرئيس الفلسطيني.

وإذ يمكن القول موضوعياً إن ما تضمنه خطاب عباس من تحليل وتوصيف للسياسة الإسرائيلية، ومآل عملية السلام وآلياتها، يشكل أساساً صالحاً لتحقيق توافق فلسطيني جماعي، إلا أن افتقار الخطاب للقرارات، واستمرار واقع الانقسام، لا يوفر الإمكانية لتحقيق المصالحة المرجوة.

حماس وصفت الخطاب على أنه عاطفي، ولا ترى فيه ما يساعد على تحقيق الوحدة الفلسطينية، مما يشير إلى أن الانقسام بتداعياته الخطرة، سيظل العنوان الأبرز للعلاقات الفلسطينية- الفلسطينية خلال المرحلة القريبة المقبلة، خصوصاً بعد أن اشتد الصراع والتنافس ينحصر في منظمة التحرير الفلسطينية.

هكذا يبدو خطاب الرئيس، وكأنه يشكل المقدمة الضرورية للانتقال بالسياسة الفلسطينية إلى مربع آخر، هو مربع الاشتباك الشامل، فالقيادة السياسية غاضبة والشعب الفلسطيني غاضب، أما إلى أين تتجه البوصلة، ومتى فالأمر لا يزال في عالم الغيب، وأكثر ما تخشاه إسرائيل والولايات المتحدة، أن يقدم الفلسطينيون على حل السلطة، أو أن تؤدي الضغوط المتواصلة عليها إلى انهيارها.

يترتب على الفلسطينيين أن يذهبوا إلى حوار وطني جدي شامل، تصبح المصالحة جزءاً منه، وتكون تحصيل حاصل له، ذلك أن الوحدة الفلسطينية هي حجر الرحى، والأساس لأي استراتيجيات وخيارات جديدة، تفرض الظروف اعتمادها، وخوض الصراع على أساسها.

هذا يعني أن القيادة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس محمود عباس، عليها اتخاذ مبادرات جديدة، تتميز بالجرأة، نحو إجراء هذا الحوار من أجل المصالحة والوحدة، وبدون انتظار ما يمكن أن توافق ولا توافق عليه حركة حماس، أو بعض الفصائل، التي لا تزال تجد وتبحث عن المزيد من الذرائع لدوام الحال على ما هو عليه.

إذا لم يكن هذا ممكناً، فإن القيادة الفلسطينية ستجد نفسها مضطرة لاتخاذ قرارات جذرية، قبل أن تجد نفسها أمام حراك شعبي عارم، يطيح بكل ما هو موجود، والاندفاع نحو تأجيج الصراع بكل أشكاله.

 

Email