الناصرية بين الأمس واليوم

ت + ت - الحجم الطبيعي

الثامن والعشرون من سبتمبر المنصرم شهد وقفة لافتة. ففي هذا اليوم الذي يؤشر للذكرى الثانية والأربعين لرحيل جمال عبد الناصر، خرجت إلى حيز الوجود في مصر كتلة أحزاب القومية العربية التي تستلهم العهد الناصري، متحالفة في حزب واحد كبير.

بالطبع لا يصح أن يسعى هذا التحالف إلى استنساخ تجربة العهد الناصري حرفياً، فالظروف بين الأمس واليوم مختلفة، سواء داخل الساحة المصرية، أو خارجها على صعيد العالم العربي الكبير والمستوى العالمي الأكبر. وعليه فإن من المأمول أن يلخص التحالف الناصري الجديد، التجربة الناصرية لينطلق منها إلى تكوين رؤية جديدة تستوعب التحولات العربية والعالمية. قيادات هذا التحالف تتبنى دعوة إلى "القومية العربية"، ولكن ماذا تعني القومية العربية من المنظور الأيديولوجي؟

دون رؤية أيديولوجية شاملة، تبقى القومية العربية دعوة عنصرية شوفينية. لقد فطن عبد الناصر إلى هذه الملاحظة، فعمد إلى توجيه الدعوة القومية وفق نهج اشتراكي. ويحسن التحالف الناصري صنعاً إذا أخذ بهذا النهج، خاصة في العصر الراهن الذي نشهد فيه انكشاف الوجه القبيح لنظام "اقتصاد السوق الحر".

النهج الاشتراكي يعني هيمنة الدولة على حركة الاقتصاد الوطني، وتوجهه انطلاقاً من مبدأ التخطيط المركزي. وعلى هذا النحو كانت الطلقة الاستهلالية لعبد الناصر، هي قرار تأميم قناة السويس عام 1956. ومن ثم رأينا كيف شمل تطبيق النهج الاشتراكي جميع قطاعات الاقتصاد، بشقيه الإنتاجي والخدمي، من إعادة توزيع عائد الثروات الوطنية، لصالح الطبقة المتوسطة وما دونها من الشرائح الطبقية للفلاحين والعمال.

هذا وحده كفيل باستثارة الغرب الاستعماري بزعامة الولايات المتحدة ضد مصر الناصرية، وعلى التحالف الناصري الجديد أن يتنبه لذلك. فتطبيق النهج الاشتراكي في الداخل، يعني تأكيد النظام الحاكم على ترسيخ السيادة الوطنية وممارستها عملياً.

وترسيخ السيادة الوطنية يعني بالضرورة الحتمية إثارة غضب القوى الغربية، ومن ثم العمل على إسقاط النظام أو تدجينه لحمله على التفريط في السيادة الوطنية.. ومن ثم التخلي عن هيمنة الدولة على الاقتصاد. وهذا ما جرى بالفعل بعد رحيل عبد الناصر، في عهد السادات ومن بعده عهد مبارك.

على مدى 18 عاماً صمدت الناصرية في ساحة الصراع الدولي، عن طريق استقلالية التحرك في السياسة الخارجية، بالتوظيف الذكي لعناصر القوة الجيو-سياسية المتاحة. وفي هذا السياق يبرز عاملان رئيسيان:

أولا؛ حشد العرب شعوباً وحكومات وراء مصر.

ثانيا؛ استغلال تناقضات الحرب الباردة بين المعسكرين الأيديولوجيين الرئيسيين: المعسكر الرأسمالي بقيادة أميركا، والمعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي.

وما ينبغي أن يفطن إليه أيضاً التحالف الناصري الجديد، هو أن التعددية القطبية في عالم اليوم، صارت أوسع مما كانت عليه في الأمس. فبينما كان في عالم الأمس قطبان فقط، فإن عالم اليوم يتكون من خمسة أقطاب مستقلة عن بعضها البعض: أميركا، وأوروبا، والصين، وروسيا، والدول الصاعدة (أبرزها البرازيل والهند).

بالطبع، التحالف الناصري ليس الآن تنظيماً حاكماً كما كان عبد الناصر. لقد تولى عبد الناصر السلطة عن طريق انقلاب عسكري، وحيث إن هذا ليس وارداً بالنسبة للتحالف الناصري، فإن معنى ذلك أن التحالف مكتوب عليه في سياق النظام الديمقراطي التعددي في مصر اليوم، أن يخوض معارك سياسية شاقة.

ورغم هذه الحقيقة، فإن في انتظار التحالف فرصاً واعدة للتقدم في ساحة الصراع السياسي، بالنظر إلى شعبية التراث الناصري التي لا تزال أصداؤها تتردد حتى يومنا هذا، رغم رحيل ذلك الزعيم الفذ الذي لم تعرف الأمة العربية نظيراً له منذ صلاح الدين الأيوبي.

في ظل ثورة الخامس والعشرين من يناير، أصبحت مصر اليوم مرشحة ليس فقط لقيادة العالم العربي، وإنما أيضاً لقيادة العالم الثالث بأسره، إذا أحسنت كافة التنظيمات الحزبية السياسية ـ ومن بينها التحالف الناصري ـ التعامل مع النظام الديمقراطي التعددي والحريات التي يتيحها. وعليها أولاً، تطبيق الممارسة الديمقراطية داخل التنظيم الحزبي نفسه.

 

Email