سيناريوهات افتراضية

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المؤكد أن الربيع العربي لم يأتِ بوصفه تعبيراً عن إشكاليات داخلية مزمنة، وإخفاقات هيكلية غير منكورة في الدول العربية، ولكنه اشتمل ضمناً على أسئلة موازية تتعلق بنظر الآخر السياسي العالمي للمنطقة العربية. والآن وللتو، يقر المراقبون العليمون بأن الولايات المتحدة وحلفاءها تراجعوا عن نصائحهم الدائمة، التي كانوا يوجهونها للزعامات العربية أثناء حكم الجمهوريين، وذلك عطفاً على تراجع مكانة اليمين الأميركي الريغاني في طوره الأجد، على عهد بوش الأب، ثم بوش الابن.. هذا اليمين الذي لم يكن يتورّع عن الانتقادات المباشرة للأنظمة العربية المقيمة في زمن ما قبل التاريخ المعاصر.

لكن فتوة بوش الابن سرعان ما تراجعت بعد التخريجة الاصطلاحية المُخاتلة، القابلة بـ"الأصدقاء المُستبدين".. واستتباعاً لذلك افترض سدنة الاستشارات السياسية الناجزة، أن قبول الولايات المتحدة بالنظام العربي وعيوبه هو الضمان المؤكد للاستقرار، وبالتالي.. للمصالح الأميركية الواسعة في المنطقة العربية. في أُفق ما، سارت أوروبا الأطلسية مسحوبة من أنفها برأس القاطرة الأميركية، وإن كان بعض الدوائر الاستشارية الأوروبية تحفظ غير مرة على استمرار المواقف الداعمة للزعامات العربية، ولكن دون نصائح وضغوط على تلك الزعامات في بلدان "جمهوريات الموز" العربية، والحاكميات السلطوية المُسترخية في أحضان "بني عبس وذبيان".

من هنا نجد أن انتفاضة الربيع العربي الشعبي لم تأت بوصفها تعبيراً عن حالة داخلية، بل شكّلت صدمة لأصدقاء العرب أينما كانوا. لكن ذلك لا يمنعنا من الإقرار بأن جوهر الانتفاضة نابع من عوامل الداخل وقوانين التاريخ الموضوعية، مما ينذر بالمزيد والمزيد، وذلك بقدر تباعد فرقاء الراهن السياسي عن وضع القدم على طريق الإصلاح السريع والناجز.

وقبل استعراض بعض السيناريوهات الافتراضية لمرحلة ما بعد الربيع العربي، لا بأس من التذكير بأن القانون الأساسي الناظم لما حدث، هو قانون التاريخ الذي يُحيل الصُّدفة إلى ضرورة، ويسخر من المراقبين والمتابعين، كما يجيب على منطق السلطة الغاشمة، بمنطق جديد يحيل عديد الرؤساء العرب إلى الغياب القسري، ليؤكد مرة أُخرى وثانية مقولة "دهاء التاريخ" الشهيرة.

جاء هذا الربيع بوصفه موسماً لما بعده. فالتسمية هنا ليست دالة الحقيقة، بل الاستمرارية، وهو أمر لا علاقة له بالأهواء والأماني والرغبات، بل يأخذ مجراه خارج نطاق السيطرة والمُحاصرة.. هذا ما يعلمنا إياه التاريخ، ولنا في ثورات العالم الآخر الدروس والعبر، منذ كومونة باريس الفرنسية، مروراً بالثورة البلشفية الروسية، وحتى انتفاضة الصين الشعبية في خمسينيات القرن المنصرم.

والآن يمكننا تحديد معالم السيناريو الافتراضي للفترة القادمة، وعلى نحو يتأسّى بالتوقعات النابعة من مقدماتها، وبالذائقة الرائية لما وراء الآكام والهضاب، وعلى النحو التالي:

الحالة السورية الأكثر تراجيدية قد تستمر لبضعة أشهر، ولكنها ستؤدي في نهاية المطاف إلى نهاية النظام القائم، بعد أن يكون الفراغ السياسي قد فتح فجوة قاتمة، وتحدياً صعباً أمام القادمين الجُدد. ولعل ضعف المعارضة السورية وتشتُّتها، وتبلور مراكز قوى فاعلة في الداخل المقاوم لترسانة النظام وشبيحته.. من العوامل التي ستأخذ مجراها على الأرض لاحقاً، حيث سنجد أنفسنا أمام خارطة سياسية أكروباتية صعبة.

في الولايات المتحدة يُرجح المراقبون عودة الرئيس أوباما لسدة البيت الأبيض، خاصة مع إدراك النخب السياسية المُجرِّبة أن مغامرة جديدة من اليمين الجمهوري المرموز بالمرشح "رومني"، الجامع بين التطرف الديني الفاقع والمذهبية الطائفية الخفائية الغامضة، مغامرة من هذا النوع من شأنها أن تضع الولايات المتحدة في متاهات أكبر من تلك التي انخرط فيها الريغانيون البوشويُّون، خلال محنة ما سُمّي بالحرب العالمية ضد الإرهاب. وعلى ذات النسق يتمنَّى أغلب الحلفاء الأوروبيين عودة أوباما، لإدراكهم التام لأن الولايات المتحدة هي رأس الحربة الكونية للغرب السياسي الأيديولوجي، وأن أي عودة لسياسات المبادآت الاستراتيجية الأميركية، ستجعلهم ينخرطون فيها جبراً لا اختياراً.

روسيا والصين تتجهان نحو تحالف استراتيجي جيوسياسي وثيق. ولقد كان لزلزال الربيع العربي أثر حاسم في بلورة هذا التحالف، لشعور الطرفين بأن البساط يُسحب من تحت أقدامهما، وأن ثقافة الغرب السياسي في حالة تمدد ظافر في المنطقة العربية.. ولا ننسى هنا أيضاً منظومة المصالح التي ستجعل الكعكة العربية تدور في مائدة واحدة لا شريك فيها، ولا مكان فيها للصين وروسيا.

أوضاع بلدان الربيع العربي لن تستقر بسهولة، والشاهد ما يجري في تونس، واليمن، وليبيا، فالاستحقاق الماثل أمام ترويكا الحكم الجديدة، أصعب من أن تتم حلحلته بعد عقود من الشمول والمرجعية الواحدة الوحيدة. ومن هذا المنطلق تكمن الإشارة إلى أن الحالة اليمنية، ورغم المبادرة الخليجية، تبدو أكثر صعوبة وتعقيداً، لأنها لم تنبع من خيار محلي صرف، بل من رؤية إقليمية توازنية، مزاجها التوافق العسير الذي نراه ماثلاً اليوم، فيما كان لقبول فرقاء الساحة المحلية اليمنية أثر حاسم في عتبة النجاح الأولى، التي لن تكتمل إلا بالتغيير المنشود.

لعل مصر أوفر حظاً في الذهاب مباشرة إلى شكل من أشكال مأسسة الدولة وفق معايير جديدة، وذلك استناداً إلى الخبرة التاريخية، وسيادة الحوْكمة المفارقة للقبلية والمناطقية والعشائرية.. أيضاً البراغماتية الذكية للقيادة السياسية الجديدة، القابلة باللعبة الديمقراطية التعددية، ومنطق القانون والنظام، وتبني مشروع تنموي تطويري، يبدو بهيجاً من الناحية النظرية، لكنه سيواجه تحديات كثيرة، أبرزها البيروقراطية المُتجهِّمة الفاسدة، والنظام الإداري والمالي المُتكلِّس، بالإضافة إلى عبء الاستحقاقات المرتبطة بالميزانية الجارية لدولة يصل عدد سكانها إلى تسعين مليون نسمة، ولم تدر فيها بعدُ عجلة التنمية الأُفقية المطلوبة.

وفي ما يتعلق بالوعاء الخليجي، أتصور أن يُصار إلى شكل من أشكال الاتحاد الكونفدرالي الذي قد يضم دولتين أو أكثر، ويترافق مع سياسات تحاصر التحديات الماثلة، وترتقي بالعمل العربي المشترك من خلال تقديم النموذج المتناسب مع ضرورات المستقبل.

السيناريو الافتراضي لما بعد الربيع العربي لا يعني تحققه بالكامل، ولا يعني استناده إلى منهج برهاني رياضي جبري، بل ينبع من استقراء يأتي بمفرداته من واقع الحال، ويجتهد بحثاً عن رؤية الغائب المُتضبِّب، وسط رُكام الأحداث، وتقاطع الإرادات.

 

Email