معركة الفيلم المسيء.. مصر المستهدفة

ت + ت - الحجم الطبيعي

معركة الإساءة المخطط لها بعناية لنبينا العظيم (ص)، ليست معركة دينية بل سياسية بامتياز، وهو ما لم يدركه أولئك الذين اندفعوا إلى الشوارع وحاصروا السفارات الأمريكية، وأحرقوا مدارس تابعة للسفارات في ليبيا واليمن وتونس، وأولئك الذين مزقوا نسخاً من الإنجيل في احتجاجات القاهرة.

لقد كتب كثيرون حول ردود الفعل وانتقدوا الطابع العدمي فيها، الذي يثبت التهم على المسلمين أكثر مما ينصفهم، لكن أحد الأهداف السياسية الأخرى، من وجهة نظري، لهذه المعركة المفتعلة من قبل صناع الفيلم ومن يقف وراءهم، هو ضرب مصر. في هذا الوقت بالذات، يكتسب ضرب مصر وإغراقها في حرب طائفية، أهمية استثنائية.

ضربها وهي تتلمس طريقها في بداية مرحلة انتقالية، يسعى المصريون خلالها (بعد ثورة فريدة من نوعها) لبناء دولة قوية عبر الدمقرطة والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية. وبوجود المدعو موريس صادق وأقباط مهجر آخرين في قائمة صناع الفيلم، فإن هؤلاء ومن يقف وراءهم يهدفون إلى أن تلحق جريرة الفيلم بالمصريين الأقباط، وأن تنالهم غضبة المسلمين من الفيلم.

ضرب مصر عبر استهداف الأقباط بإثارة المسلمين ضدهم، لم يبدأ من اليوم بل منذ عقود خلت، وهم في هذه المعركة الطويلة لضرب مصر، كانوا أكثر وعياً مما يتصور الكثيرون، رغم تهور بعض أقباط المهجر من أمثال موريس صادق، الذي يجاهر بصلاته مع إسرائيل ويدعو لدولة قبطية في مصر. ومثلما ابتلع الكثيرون طعم الفيلم المسيء لنبينا محمد، فقد ابتلع الكثيرون الطعم مرة تلو الأخرى في هذه الحرب الطويلة، ليسهموا دون وعي منهم في خلق حالة احترابية بين مسلمي وأقباط مصر في العقود الماضية.

إن جزءاً غير قليل من التقدير للبابا الراحل شنوده الثالث، يعود إلى إحساسه العالي بالمسؤولية ووعيه التام بهذه المخططات، وهو ما جعل الكنيسة القبطية المصرية الجبهة الأهم في التصدي لهذه المخططات، عبر ضبط حركة الأقباط ضمن مسارها التاريخي الطبيعي كمواطنين مصريين قبل كل شيء، وعدم الانسياق لأي ردود فعل قد تقود إلى تكريس حالة الاحتراب. لم يكن البابا شنودة رجل دين عاديا، بل كان قائداً مصرياً ذا رؤية وبصيرة وإحساس عالٍ بالمسؤولية، جنب مصر صداماً ووقيعة ظل يخطط لها الكثيرون عقوداً طويلة، بدأب وإصرار.

إن المؤامرات والمخططات لا يمكن إفشالها بالأمنيات والبلاغة الخطابية فحسب، بل بوعيها وعدم الانسياق إلى ما ترمي إليه. والمؤسف للغاية، هو ذلك السجل من الاعتداءات ضد الأقباط، التي عمت مصر اعتباراً من ثمانينات القرن الماضي، وتصاعدت تباعاً من قبل جماعات تنسب نفسها للإسلام، لا تمتد ذاكرتها طويلاً في التاريخ المصري نفسه، لكي تدرك فداحة ما تم ارتكابه والتنظير له بفتاوى من دراويش صغار.

أولى الحقائق الثابتة اللصيقة بالأقباط، يكشفها التاريخ المصري نفسه. فعلى مر العصور، شهدت مصر غزاة لا حصر لهم، لكن التاريخ لم يسجل أبداً للأقباط سوى أنهم كانوا في الصف الوطني، فلم تمتد أيديهم لغازِ، بل كانوا دوما في صف المدافعين عن الأرض والوطن. ثورة 1919 برهان ساطع لمفاصل تاريخية مهمة، برهن الأقباط خلالها على هذا الانتماء الوطني بجدارة.

وإذا كان مفصل تاريخي مثل حرب أكتوبر 1973، يشكل حدثاً تاريخياً أعاد صياغة الهوية الوطنية والتاريخ المصري، فإن الحرب كانت إنجازاً وطنياً بامتياز، للمصريين مسلمين وأقباطا. فعدا أن الأقباط يقدمون ضريبة الدم عبر الخدمة العسكرية، مثلهم مثل إخوة الوطن المسلمين، يكفي التذكير باثنين من أبطال تلك الحرب، لكي تعرف أجيال من المصريين والعرب أيضا ما يتم نسيانه حول الأقباط باختزال مهين للعقل والذكاء.

كانت أول موجة من المشاة المصريين الذين عبروا القناة تحت غطاء القصف المدفعي المصري والقصف الإسرائيلي المضاد، من جنود "اللواء الثالث مشاة" بقيادة العقيد "شفيق متري سيدراك"، القبطي الصعيدي المولود في إحدى قرى أسيوط عام 1921. لقد كان سيدراك (تمت ترقيته بعد استشهاده إلى رتبة لواء) أستاذ التكتيك العسكري في الكلية الحربية المصرية، الذي شارك في حربي عام 1956 و1967 وحرب الاستنزاف، يتقدم جنوده في معارك الدبابات الشهيرة قرب الممرات، قبل أن تصاب دبابته (دبابة القيادة) بقذيفة دبابة إسرائيلية، ليستشهد هو والجنود الخمسة الذين معه، في التاسع من أكتوبر 1973.

أما مدينة القنطرة شرق، فقد كانت أول مدينة يتم تحريرها في تلك الحرب، في 7 أكتوبر. كانت مهمة تحرير المدينة والاستيلاء على النقاط الحصينة حولها، وتأمين المنطقة شمالا حتى بورسعيد، وقبلها اقتحام أصعب نقطة في خط بارليف، موكلة إلى "الفرقة 18 مشاة" بقيادة الفريق "فؤاد عزيز غالي"، القبطي المولود في محافظة المنيا عام 1927، والذي شارك في حروب 1948 و1956 و1967، وتمت ترقيته لاحقاً في ديسمبر 1973 قائداً للجيش الثاني الميداني. سيضاف إلى غالي وسيدراك، قائد عسكري مصري آخر هو العقيد "جورج حبيب"، قائد "اللواء 24 مدرع"، الذي أصيب في الحرب.

إذا وضعت هذه الحقائق في مواجهة تلك الفتاوى التي بررت سرقة محلات الصاغة الأقباط في الثمانينات، واستحلال أموالهم لتمويل عمليات "الجهاد"، على سبيل المثال، لربما يدرك كثيرون فداحة الجهل الذي أحاق بأولئك النفر من الشبان اليائسين، وفداحة الأثمان التي دفعها المصريون جميعاً مسلمين وأقباطا، لتلك الحقبة السوداء من تاريخهم، وتالياً الكلفة الباهظة لكل تصور قاصر ومبتسر، حيال أكثر المسيحيين رسوخاً في الوطنية في بلداننا العربية.

ذاكرتنا التي تميل للاختزال، وضعف وعينا وإحساسنا بالتاريخ، هي أكبر عيوبنا. فمثلما اختزلت تلك الحرب بكل ما مثلته وبكل قادتها وجنودها الأبطال (مسلمين ومسيحيين)، في بضعة عناوين هي "الثغرة" وخلاف الفريق سعد الدين الشاذلي والرئيس السادات (رحمهما الله) حولها، يمتد النسيان ليشمل المرحوم غالي والشهيد سيدراك، بل وحتى قائد الحرب نفسها المشير أحمد إسماعيل علي، الذي آثر أن لا يتسلم ترقيته بعد الحرب منفرداً، بل مع كل قادة الحرب الآخرين.

 

Email