الإسلام والمسيحية والمواجهة الشرسة

ت + ت - الحجم الطبيعي

من أكثر الأمثلة الفرنسية دلالة يقول: (الدودة أصبحت في التفاحة!)، أي أن الأمر قد فسد ولم يعد بالإمكان إصلاحه. وهكذا وصلت العلاقة والروابط الحضارية بين المسيحية والإسلام إلى مرحلة اللا عودة أو إلى قرون من الزمن.

كانت الحضارة المسيحية والإسلامية على خلاف دائم على مر العصور، ولا أشهد مثلاً على ذلك من الحملات الصليبية التي هُزم فيها المسيحيون شر هزيمة، ولم يكن في الأصل خلافا على المبادئ الأساسية للديانات السماوية، وإنما على من يقود العالم؟ الشرق الإسلامي أم الغرب المسيحي؟ مع أن المسيحيين واليهود كانوا معززين مكرمين تحت ظل الحكومة الإسلامية في الجزيرة العربية، وكانت حقوقهم محفوظة وحرياتهم في ممارسة طقوسهم مصانة، وحرم القرآن الكريم ونهى النبي عليه أفضل الصلاة والسلام ومن بعده الخلفاء رضي الله عنهم، المساس بهم أو إهانتهم أو التعرض لممتلكاتهم أو حتى أماكن العبادة لديهم.

غير أن مثل هذا التوازن اختل فيما بعد، حينما جاء الصليبيون بعدتهم وعتادهم لمحاربة الدين الجديد الذي بدأ ينتشر شرقا وغربا على يد قادة مسلمين شرفاء لا يعرفون الكلل ولا الملل، هذا الدين الذي بدأ يسحب البساط من تحت أقدام البلدان التي كانت في يوم من الأيام تحت سيطرتهم أو تحت سيطرة الفرس. وفي الوقت الذي تحولت فيه مملكة فارس إلى الإسلام ورضت به بل بالغت فيه، حاولت الدويلات المسيحية في أوروبا مقاومته، بيد أن منها من وجد في الإسلام منقذا من النظام القائم ومن التخلف الفكري لدى المسيحيين ونزعة الهيمنة على البشر وتحرراً من العبودية التي جعلت من هذه الممالك مجرد مناجم تدر من المعادن ذهباً خالصاً يحمل إلى خزينة الدولة البيزنطية ومن الأسرى والضعفاء عبيداً.

 وبالتالي، سرعان ما تساقطت هذه الممالك الواحدة تلو الأخرى في يد المسلمين الذين فتحوها دون مقاومة تذكر، آملين في حرية أكبر تضمنها لهم مبادئ الإسلام السمح. هذا التقهقر المسيحي أمام المد الإسلامي الذي وصل إلى أبواب فيينا في القرن السابع عشر، والتي لو سقطت لأصبحت معظم أوروبا تدين اليوم بالإسلام، أشعل في صدر المسيحية القهر والحقد على الدين المنافس لها، والذي يسمى الإسلام وتغلغل الخوف في قلب المسيحية من أن يعود الإسلام يفتح أبواب فيينا من جديد.

وعندما ضعفت الدولة العثمانية لاحقاً، انتهز الغرب هذه الفرصة لاستعادة أمجاد كنيستها الغابرة. وتزامن مع الاستعمار الأوروبي هجمة التبشير بالمسيحية في جميع الاتجاهات. غير أن من يدينون بالدين الإسلامي كانوا أقوى بكثير من بساطة المبشرين، ولم يجد المسلمون في التوراة والإنجيل المترجم بشكل ركيك ما ينافس أو يضاهي فصاحة وإعجاز القرآن الكريم.

ورجع المبشرون بخفي حنين، لكن ساستهم ظلوا متمسكين بالأرض التي كانت وما زالت غنية بالمعادن النفيسة والبهارات الخالصة وقصص الخيال النادرة وقبل كل شيء النفط الذي بفضله تحركت الآلة الأوروبية وتفوقت على غيرها في سائر الميادين. ولشغل المسلمين عن جمع الغنائم، شرعوا في غرس دولة إسرائيل في قلب العالم الإسلامي من جهة وبث البرامج والأفلام التي تمجد الغرب لغة وثقافة من جهة أخرى. وكان بهذين الشاغلين ما يكفي لتأمين عبودية الشرق الإسلامي للغرب المسيحي ووقف امتداده.

وعندما فاض الكيل، برزت في العالم الإسلامي عناصر وأحزاب وحركات تنادي بالحرية والتحرر من الاستعمار وهيمنته الشرسة. وعندما قرر الاستعمار الخروج شكلاً والبقاء ضمناً، وبعد أن عين على رأس الشعوب المستعمرة من اطمأن إلى إخلاصهم في رعاية مصالحه، وجدت مجموعة من المسلمين أنه والحال كذلك فلا حل مع الاستعمار المسيحي سوى العودة إلى أصول الدين واستخدام لغة السيف بعد أن انقطع حبل التفاهم.

وبلغ الخلاف بين العقيدتين إلى ذروته، فأمعن الغرب المسيحي في هيمنته وغرقت الحركات الأصولية في العنف الذي لم يعد يفرق بين المسلم المسلوب الإرادة من وجهة نظرها والمسيحي أياً كان موقفه. ولم تبق لغة للتفاهم بين الطرفين سوى العداء المتزايد، وأصبح الحكم بينهما إما السيف أو الصاروخ.

Email