الإعلام الذي غزا نفسه

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم نترك وصفاً إلا وأطلقناه على الغزو الغربي للفكر العربي. ونبغ بعض الكتاب وأصحاب الأقلام الثقافية والمدافعة عن الثقافة العربية في استنكار وشجب هذه السياسة الغربية التي لا تحترم ثقافة الآخر. وعانى مثقفو القرن الماضي من رعب انحسار الثقافة العربية أمام المد الاستعماري الغربي.

وألهب فورتهم تلك ظهور زعيم عربي فريد من نوعه حمل راية القومية العربية ودافع عن تاريخها وعراقتها وثقافتها وكيانها أمام الهجمة الاستعمارية الشرسة.

فالتمت الجموع من حوله كما يلتف الغريق بطوق نجاة، فساعد في بروز جيل جديد من الكتاب والمثقفين، يحلمون بالتحرر من الاستعمار ومن الغزو الغربي لموروث عربي وإسلامي عريق يضرب بجذوره في أعماق الأرض والسماء.

كان الهدف من السد الذي أقامه المفكرون والكتاب والمثقفون العرب المسلمون والمسيحيون متحدين، هو صد تلك المؤامرة التي كانت تهدف إلى مسح الثقافة العربية (لغة وفكراً وثقافة وأخلاقاً) من على وجه الأرض بمثابة استمرار للحملات الحروب الصليبية التي بدأت في القرن الثاني عشر الميلادي وفشلت وباستبدالها بثقافة غربية تدعي التحرر بكل أشكاله وألوانه. وربما لضعف الإيمان لدى البعض وتشتت العرب وتمزقهم لم يستطع هذا السد الصمود طويلاً، فانهار على من خلفه.

غير أن غيرة العرب على موروثهم الثقافي ظلت تقاوم وهي تحتضر، وحافظ بعض المثقفين على حماسهم رغم كل الهجمات الغربية التي انضم إليها للأسف الشديد بعض الكتاب العرب مطالبين بإحلال اللغة الأجنبية لغة العصر والتحضر محل اللغة العربية، واستبدال حروفها بالحروف اللاتينية كما فعل كمال أتاتورك في تركيا بعد نهاية زمن الخلافة العثمانية.

وادعى آخرون بأن اللغة العربية ليست لغة علم ولا معرفة ولا تقدم ولا تحضر، وأنها بعد فترة زمنية ستموت سريرياً، وستصبح كاللغة اليونانية والرومانية القديمة التي عفا عليها الزمن.

ولعب الإعلام دورا خطيرا في هذا التحول، وقلب ظهر المجن لأصوله وثقافته، وعندما نجح في إقناع المشاهد والسامع بأن لغته ليست بتلك الأهمية الحضارية، وأصبحت البرامج الأجنبية تتفوق على البرامج العربية من حيث الكيف والكم وطريقة العرض والإخراج والتمثيل والتصوير وأشكال الممثلين، وعندما أصبح اهتمام العربي بمتابعة المسلسل الأميركي "الجميلة والجريء" فريضة يومية، اقتنع جيل هذه المسلسلات بأن لا مدارسه ولا جامعاته ولا معاهده قادرة على أن تقدم له مثل هذه الشخصيات والأدوار واللغة الجريئة.

وإذا بالجامعات العربية تصبح كالسلعة الفاسدة، وانتشرت بنجاح باهر المعاهد العلمية الغربية، وأصبح العربي يدفع دم قلبه للالتحاق بإحدى هذه الجامعات التي فتحت ذراعيها للعقول العربية الحالمة بشخصية البطل المغوار الأميركي والبطلة الرومانسية الفرنسية ذات الرداء الأحمر.

وقتها فقط انتبه الإعلام الغربي إلى أنه ربما تأخر قليلاً أمام المعاهد الغربية في غزوها الثقافي للأمة العربية، فأنتج خير مسلسلاته وبرامجه لنا، حتى وصل الخبر إلى شركات الإنتاج المكسيكي والتركي والكوري الذي تم تفصيله بعناية ليركب بسهولة على العقلية العربية الجديدة.

كل كذلك كان يسير بشكل طبيعي، ولكن ما لم يكن متوقعا هو أن من كان يقاوم الغزو الثقافي أصبح يطلبه! وإذا بالقنوات العربية في الدول الإسلامية تتهافت على المسلسلات الأجنبية الهابطة والخليعة والرخيصة، وتلتها البرامج المفتوحة والأفلام التي تمتد من ... لتصل إلى ....... ولتيسير عملية الغزو الثقافي والأخلاقي والفكري واللغوي هذه، ولمسح أي آثار للجريمة، أنتجوا النسخة العربية بمقدمين ومقدمات ومخرجين عرب ومسلمين أصلاً وفصلاً. وبلغ التنافس بين القنوات العربية المحترمة على أشده في تقديم أسوأ الأمثلة الغربية وأكثرها تفاهة لأفضل خلق عربي يمتد لألف وأربعمائة سنة إلى الوراء.

ونجحت الخطة، وأصبح العربي مع الوقت يفكر ويقرأ ويكتب ويتفاهم بلغة الأجنبي حتى في عقر داره... وبمجرد أن تدير رقماً حتى يأتيك الرد الآلي (أقصد الأوتوماتيكي!!) يخيرك بين لغتين: في المرتبة الأولى (الإنجليزية) والثانية (العربية).... وكثير من العرب يختارون بالطبع الاختيار الأول.

Email