نظرة الغرب إلى النموذج الصيني

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل ثلاث سنوات نشر المؤرخ البريطاني المعاصر مارتن جاك كتاباً بعنوان: "عندما تحكم الصين العالم"، تنبأ فيه بأن الاقتصاد الصيني سوف يلحق بالاقتصاد الأميركي من حيث الكم في عام 2027، وعلى الفور وُوجه هذا التنبؤ بعاصفة من السخرية والتهكم في العواصم الغربية كافة من قبل معلقين اقتصاديين. ولكن لاحقاً اضطر هؤلاء المعلقين أنفسهم بالإضافة إلى سياسيين، للاعتراف بأنهم أخطأوا التقدير بعد أن صار التفوق الاقتصادي الصيني أكبر حقيقة في عالم اليوم. بل وفي هذا السياق نشرت مجلة "الايكونومست" اللندنية، التي تتكون قاعدة قرائها من نخب رجال الأعمال في الغرب، تنبؤاً جديداً يفيد بأن الصين سوف تلحق بأميركا في عام 2018.

هنا يتساءل البروفيسور جاك: لماذا نحن في الغرب كنا نصر على نكران هذه الحقيقة؟ لماذا ننكر صعود الصين؟

الإجابة كما وضعها البروفيسور، هي ذلك الشعور الحضاري الغربي بالغرور، الذي يستكثر أي نهضة حضارية لأي شعب خارج المنظومة الغربية.

وعلى نحو فجائي، تفجرت في عام 2008 الأزمة المالية والاقتصادية في الغرب بصورة كاسحة وفاضحة، لتكشف عن الفارق الأساسي الجوهري بين الاقتصاد الصيني واقتصادات الغرب. فبينما تسود في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة علامات الوهن الاقتصادي مصحوبة بإجراءات برامج التقشف، تركب الصين موجة عارمة من صعود النمو الاقتصادي بمعدل 9 إلى 10%.. وهو معدل لم يعرف له مثيل في التاريخ الاقتصادي العالمي.

حقاً يشكل عام 2008 عهداً جديداً في عالم اليوم، يؤشر لبداية نظام اقتصادي عالمي صيني. وحتى وقت قريب سادت الولايات المتحدة عهد العولمة، لكن هذا الدور أخذ في الانتقال الآن من أميركا إلى الصين. والميزة الأعظم لهذا الدور تتمثل في التجارة، فالصين سوف تصير قريباً أكبر دولة تجارية في العالم. إنها تستورد كميات ضخمة من المواد الخام، وتصدر حجماً ضخماً من السلع المصنّعة.

وفي عام 2011 لحقت الصين بالولايات المتحدة لتصير أكبر منتج للسلع المصنّعة في العالم.. وهو وضع انفردت به أميركا لمدى 110 سنوات. وفي عام 1990 لم تكن هناك دولة في العالم المعاصر، كانت الصين شريكها التجاري الرئيسي، وبحلول عام 2000 كان هناك عدد قليل من مثل هذه الدول، لكن كانت كلها تقريباً في شرق آسيا. أما بحلول عام 2010، فإن القائمة اتسعت لتشمل العالم بأسْره، بما في ذلك اليابان وجنوب إفريقيا وأستراليا وشيلي والبرازيل والهند وباكستان ومصر.. بل والولايات المتحدة نفسها. وبوسعك أن تتصور كيف سيكون طول القائمة في عام 2020.

في الوقت نفسه، تبرز الصين على نحو متسارع كقوة مالية كبرى.. ففي عامي 2009 و2010 قدم بنك التنمية الصيني وبنك التصدير الصيني، قروضاً إلى الدول النامية بأكثر مما قدم البنك الدولي.

إن على الغرب أن يذكر نفسه بأنه في أكتوبر الماضي، عندما كان مستقبل عملة اليورو موضع شك خطير، ناشد القادة الأوروبيون الصين لتقدم لهم قرضاً ضخماً. بريطانيا أيضاً مفلسة، وتحتاج تمويلاً صينياً لمشروعاتها في البنى التحتية.

مع هذا كله تسمح الزعامات الغربية لنفسها باستشعار الغرور الحضاري، الذي يمنعها الإقرار بحقيقة التفوق الصيني.

يقول البروفيسور جاك، إن الغرب كان مركز العالم والمكان الذي تنبع منه عناصر القوة والأفكار على مدى قرنين. لكن الأمر لم يعد كذلك، "فنحن في الغرب" ـ يضيف البروفيسور المؤرخ ـ "نشهد الآن متغيرات عظمى لم يشهد العالم مثيلاً لها خلال أكثر من قرنين".

ويقول إن صعود أوروبا وأميركا خلال القرنين الماضيين، خلق لهما عقلية الشعور الزائف بالعظمة والحكمة. "ونحن في الغرب نرى في أنفسنا عقلية انفتاحية، لكن الشعور بالاستعلاء أغلق عقولنا. ولذا فإنه لم يخطر ببالنا أن الصين قد تلحق بالولايات المتحدة، لأن الصين ليست غربية التوجه".

ويمضي البروفيسور جاك قائلاً: "كنا النموذج العالمي الذي ينبغي أن يقتدي به الكل لكي يحققوا النجاح". ويختتم قائلاً: "إنه بإصرارنا على النظر إلى الصين من منظار غربي، فإننا رفضنا أن نتفهم الصين بمعاييرها الخاصة".

Email