الإعلام وأهل سوق عكاظ

ت + ت - الحجم الطبيعي

صار العالم يخاف خوف الموت من كلمة "الإعلام"، الذي تبلور في بعبع التلفزيون والذي أصبح بدوره مع الوقت وحشاً يشبه الأخطبوط ولكن بألف يد ورجل وفم وعين ورئة. وأصبح يتنفس من تحت الماء ومن فوق الماء وما بينهما. وأصبح يدخل بيوتنا من كل الثقوب والتشققات والنوافذ والفتحات ومن دون أذن.

وصرنا مع الوقت بدلاً من أن نحمد الله على نعمة التقدم وحرية الاختيار بين آلاف القنوات المجانية وغير المجانية التي تبث من كل بقاع الأرض بكل اللغات والمذاهب والأديان والثقافات والأغراض، وبدلاً من لعنة الملل الذي كان يحيط بنا سابقاً أثناء الجلوس كالأصنام خلف قضبان القناة الواحدة إذا كان الجو جافاً، أو اثنتين إذا كان الجو رطباً، وبدلاً من أن نشكر المكتشفين على متعة الألوان والأبعاد الثلاثة، بعد أن كانت القناة التي نشاهدها (غصباً عن عينينا) باللونين الأسود والرمادي، بدلاً من كل ذلك صرنا ندعو الله أن يعيد لنا أيام زمان باللونين فقط، ونلعن المخترعين الذين اخترعوا القنوات الفضائية، ونتمنى لو أن رقابة التلفزيون تعود كما كانت قبل اكتشاف الفضائيات.

الحقيقة أنه لأول مرة في تاريخها تهب شعوب العالم بالمطالبة بالعودة إلى الوراء بدلاً من التقدم إلى الأمام بهذا الشكل المخيف والمفجع لأخطر جهاز اخترعه الإنسان على وجه البسيطة. لقد أصبح جهاز التلفزيون خطيراً بكل المقاييس والأبعاد.

ولا أحد ينكر بأنه ساهم هو والانترنت في تغيير خريطة العالم وجعله قرية صغيرة، وأنه قرب بين البشر، وأنه فضح الحقائق، وأنه ألغى أنظمة بائدة، وأنه أقام دولاً وأسقط أخرى، لكنه أيضاً ساهم في طمس الحقائق، وغلب رأي من يملكه حتى ولو كان ظالماً رأي من لا يملكه وهو مظلوم، واستحوذ على الإعلام المال بعد أن كان حكراً في يد المؤسسات الحكومية، وأصبح يدر أموالاً بعدد حبات الرمال على من عرف كيف يستغل سذاجة المشاهد، وتمكن كل من يملك القدرة الشرائية على بث قناته على عدد الأقمار الصناعية التي تكتظ بها السماء من فوقنا، وتمكن من قول ما يشاء، وفعل ما يشاء وبث ما يشاء دون حسيب ولا رقيب.

وبرز فجأة نوع جديد من المستثمرين في مجال القنوات الفضائية والبرامج التلفزيونية والمسلسلات المتعددة الأغراض والأهداف، خصصوا قليلاً من رؤوس أموالهم في محفظة استثمار وغربلة عقول البشر فكسبوا المليارات الفلكية من برامج الواقع والمسلسلات الهابطة والإعلانات المنتهية الصلاحية التي استخدمت فيها المرأة وجمالها كسلعة رخيصة.

وعجز الأب عن ردع ابنه، والأم عن نصح ابنتها ويئس رجل الدين من البكاء أمام الكوارث الكونية القادمة، والكل جلس متسمراً كل أمام جهازه وكل أمام شاشته الخاصة به وكل أمام برنامجه المفضل، وأصبح التلفزيون في الصالة وغرفة النوم والمطبخ والحمام أثناء قضاء الحاجات الطبيعية وفي صالونات الحلاقة وفي السيارة وفي الهاتف الخلوي وفي صالة انتظار طبيب الأسنان وفي غرفة العمليات الجراحية.

ولم يعد لأولياء الأمور لا السلطة الأبوية ولا القدرة التربوية على فلذات أكبادهم، ولا لحكام العالم أي قدرة على صد أو رد أو مراقبة أو التحكم بهذا الكم الهائل من البرامج ذات الأهداف والأغراض المتنوعة والمتناقضة والمتشابكة التي تبث على مدار الساعة.

وإذا بالعائلة الواحدة تنقسم إلى مجموعات منفصلة، يشاهد فيها الأب برامج الأخبار التي لا يعرف صحتها من كذبها وتلفيقها، والأم أمام شاشتها مندمجة مع برامج الطبخ دون أن تطبقها في الواقع، والشاب المراهق الذي يشاهد فيلماً لا نعلم من كتبه أو أخرجه وكيف فك شفرات قنواته المدفوعة، والبنت المراهقة (دون استثناء أفراد الأسرة الآخرين) التي تتابع بتلهف المدمن مسلسلاً مكسيكياً أو تركياً أو أميركياً هابطاً تخجل منه النفس بينما ترك الطفل وحيداً يجلس في غرفته يتعلم من الرسوم المتحركة اليابانية والكورية ما لم يتعلمه بعد في منهاج المدرسة...

وإذا بالجريمة تتحول من الشاشة إلى الشارع، والأخلاق تتحول من الاحترام إلى فسخه ومن التآلف الأسري إلى فك هذا التآلف وتحول المجتمع إلى مجتمع استهلاكي يميل إلى المتعة واللذة اللحظية وإلى تقليد ما يمتع به ناظره دون التحقق من صحته وضرره.

 ولم يعد لسوق البرامج التلفزيونية الثقافية الهادفة من سوق سوى سوق عكاظ القديمة... التي مات أهلها.. في الجاهلية.

Email