«عدم الانحياز» بين الأمس واليوم والغد

ت + ت - الحجم الطبيعي

ألا تحتاج "حركة عدم الانحياز"، التي اختتمت أخيراً اجتماع قمة، إلى إعادة رسم دورها في عالم اليوم؟

خرجت الحركة رسمياً إلى حيز الوجود في عام 1961، ومعنى هذا أنه منذ تدشينها وحتى اليوم، مضى أكثر من خمسة عقود، شهد العالم خلالها تغييرات جيو-سياسية كاسحة ومعقدة، بحيث إن الدور الذي رسمه القادة لحركتهم في مطلع عقد الستينات من القرن المنصرم قد عفا عليه الدهر، ما يتطلب رسم دور جديد تماماً يتلاءم مع المتغيرات التي جرت.

فكرة "عدم الانحياز" التي على أساسها أنشئت الحركة، ابتدرها ثلاثة من قادة ذلك الزمان البعيد: المصري جمال عبدالناصر، والهندي جواهر لال نهرو، واليوغسلافي جوزيف بروس تيتو.

كان ذلك عصر "الحرب البائدة" بين معسكرين: المعسكر الرأسمالي الغربي بزعامة الولايات المتحدة، والمعسكر الاشتراكي السوفييتي بزعامة الاتحاد السوفييتي، وكان جوهر فكرة "عدم الانحياز" هو رفض الانتماء الأيدولوجي إلى أي من هذين المعسكرين. وصدع القادة الثلاثة بالفكرة، وأخذوا يبشرون بها بين زعامات الدول الناشئة في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.

لكن حتى في تلك المرحلة المبكرة، كانت فكرة عدم الانحياز توجهاً نظرياً أكثر منها منهاجاً عملياً واقعياً. ولنأخذ مصر الناصرية كمثال.

كان عبدالناصر في حقيقة الأمر منحازاً إلى الاتحاد السوفييتي، في ساحة الصراع الدولي. لم يكن عميلاً، وإنما كان حليفاً. ولم يكن له خيار في هذا الانحياز، فقد اضطرته واقعية الصراع الدولي إلى ذلك.

في مطلع ثورة يوليو 1952 خطب عبدالناصر ود الولايات المتحدة، لكنه أصيب بخيبة أمل وصدمة عندما رفضت واشنطن له مطلبين حيويين: رفضت تمويل إنشاء مشروع السد العالي.. ورفضت بيعه سلاحاً متقدماً.

وعندما توجه صوب الاتحاد السوفييتي، تجاوبت معه موسكو في الحال فوافقت فوراً على إمداده بالأسلحة المطلوبة، وتعهدت بتمويل بناء السد. وكان ذلك بداية عهد من الصداقة الحقيقية بين مصر الناصرية والاتحاد السوفييتي، وهكذا كان الانحياز لجمال عبدالناصر خياراً لا بد منه. مع ذلك فإنه كان حتى حلول موعد رحيله عن الدنيا، في مقدمة قيادات حركة عدم الانحياز.

بعد ثلاثة عقود تقريباً من تدشين الحركة، وقع حدث جلل أطاح بالمشهد العالمي القائم تماماً. فقد انهار المعسكر السوفييتي وزال من على وجه الأرض.

هنا رأت الولايات المتحدة في ما جرى، أن مشهد الزوال السوفييتي يمهد لإقامة نظام عالمي جديد، وأنه سيكون نظاماً ذا قطب أحادي ينفرد بحكم العالم، وأن هذا القطب هو بالضرورة أميركا نفسها.

ولم يخل الطموح الأميركي من مبالغة، فطلع علينا الفيلسوف الأميركي فرانس فوكوياما بمقولة حلول "نهاية التاريخ".. أي أن الصراع الأيدولوجي المحموم بين بني البشر، انتهى الآن إلى انتصار خيار الرأسمالية، بعد أن اندحرت الاشتراكية إلى الأبد. وتبع ذلك انتشار دعوة محمومة، بأن القرن الحادي والعشرين سيكون حتماً "قرن أميركا".

شاهد القول إذن، هو أن هذه التطورات الجسيمة اكتسحت تماماً حركة عدم الانحياز، حيث إنه لم يكن من المتصور أو الممكن أن يكون لها دور.

لكن التطورات لم تقف عند هذا الحد، فالأحادية القطبية للولايات المتحدة لم تتحقق. ذلك أن العالم تحول إلى أقطاب متعددة، وهذا التحول انبثق عنه ظهور قوى اقتصادية سياسية جديدة، من أبرزها البرازيل وروسيا والهند والصين، على خلفية تدهور الولايات المتحدة اقتصادياً.

هذا يقودنا إلى السؤال الكبير: ماذا عن مستقبل حركة عدم الانحياز.. وهل من دور جديد لها؟

أجل.. فإن من المتاح لها أن تتحول إلى تنظيم اقتصادي مظلي، يمثل مجموعة الدول النامية الفقيرة. ومن المتاح أيضاً أن تشكل القوى الاقتصادية الصاعدة المشار إليها، النواة لهذا التنظيم المظلي.

 

Email