الإعلام ومأزق الأنظمة العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الستينيات لغاية الثمانينيات من القرن الماضي، كان الإعلام محدودا في ما نقرأ من صحف ومجلات وما نسمع من إذاعات وما نشاهد من قنوات تلفزيونية. وكلها كانت تمر من بين حدي مقص الرقيب دون أدنى رحمة. وكان العالم العربي يعيش في واد، والعالم المتقدم في واد آخر. وكان العالم العربي لا يعرف الخبر إلا بعد أيام أو أسابيع أو لا يسمعه أبدا.

والغـريب أن العالم العربي لم يكـن متفقا على تفاصيل الخـبر. فكل دولة تنشر الخبر كما يحلو لها وبما يتماشى مع رغبة النظام. فإذا اجتمع ثلاثة من العرب من جنسيات مختلفة على طاولة الطعام، تناقضت آراؤهم، ليس لاختلافهم في الرأي والفكر، وإنما في اختلاف مصـدر الخـبر! وكـان هـذا أمـرا مضحكا حتى بالنسبة للعـرب أنفسهم لأنهم يعرفون جيدا كيفية ضياع الحقيقة.

غير أن تشرب أدمغتهم بما تكتبه صحفهم وما تبثه إذاعاتهم وتلفزيوناتهم جعلهم مـع مـرور الوقـت يؤمنون بالكذبة التي أذاعوها، ونحن لا نلوم الأنظمة العربية دون غيرها على تحوير الأخبار، فحتى الغرب (المتحضر) كان وما زال يمارس هذه الشعوذة ولكن بأسلوب أكثر فنية وخبثا. ولم يكن أحد يملك السلطة الكافية للوقوف ضد مثل هذه الممارسات لا بالنشر (حيث لن ينشر رأيه) ولا بالقول (حيث لن يسمعه أحد).

وهذه واحدة من الأخطاء الكبيرة التي وقعت وما زالت تقع فيها الأنظمة حين لا تسمع للرأي الآخر وعجلت في النهاية بوفاتها.

إنني أشبه الرأي الآخر بالطبيب الاستشاري. بل اننا في حاجة خاصة في وسائل الإعلام التي تعطي هامشا كبيرا من الحرية - لأكثر من طبيب استشاري للحصول على تشخيص أكثر دقة. واعتقدت بعض الأنظمة العربية بأن الأمور ستسير على هذا المنوال لصالحهم إلى قيام الساعة. حتى دخلت الفضائيات وقلبت الأفكار رأسا على عقب. ووقعت بعض الأنظمة العربية في مأزق لا تحسد عليه.

بل ان بعض الدول منعت سكانها في البداية من تركيب صحون الالتقاط، وما أن مضت بعض أعوام حتى أصبحت أعداد صحون الالتقاط على أسطح المنازل والعمارات والأبراج والبلكونات والشبابيك أكثر من أعداد السكان وبدلا من قناة واحدة أصبح أمام المشاهد العربي مئات من القنوات الفضائية من شتى أنحاء العالم وبمختلف النكهات واللغات واللهجـات والمعتقدات.

وازدهرت تجارة الأجهزة الالكترونية في مجال الفضائيات والقنوات المشفرة المدفوعة الثمن. واختلط الحابل بالنابل.

ولم تمض سنوات حتى حلت الطامة الكبرى الأخرى عندما دخل العالم في فلك الانترنت والذي أصبح وسيلة إعلامية جديدة أسرع من النفط اشتعالا. ودخل قطار العالم العربي في مرحلة اللا رجعة.

وكلما تطورت هذه الوسائل ضاق الخناق على بعض الأنظمة الجمهورية المستبدة بالحكم لعقود طويلة، والتي كانت تخدر شعوبها الفقيرة الجائعة بشعارات فارغة. وسرعان ما تحولت بعض القنوات الفضائية الرسمية إلى قلاع مهجورة تسكنها الأشباح. وأصبح المشاهد العربي والمدون العربي سيدا الموقف.

وكما هو مذكور في القرآن الكريم في قصة نبينا سليمان عليه السلام قبل الميلاد مع ملكة سبأ، حين تمكن رجل ممن عنده علم الكتاب من إحضار عرش ملكة سبأ إلى النبي سليمان قبل أن يرتد إليه طرفه، أصبح الخبر ينتشر على أجهزة الهواتف المحمولة بأسرع من لمح البصر وقبل أن يصل إلى علم محرري الفضائيات.

وانتهز الشباب العربي الفرصة التي طالما انتظرها، وهو يقرأ ويسمع ويشاهد بمرارة ويقارن وضعه المادي والعلمي والنفسي والحضاري والسياسي بشعوب العالم الأخرى.

وقرأ هذا الجيل من الشباب في موقع الويكبيديا أن إنسان الولايات المتحدة الأميركية قد تجول على القمر عام 1969 وربما يصنع الشيء نفسه قريبا على المريخ بينما هو ما زال غير قادر على صنع عود ثقاب، وأن سبب تقدم شعوب الغرب والشرق الأقصى يعود إلى ديمقراطية النظام والمحاسبة الذاتية والقانون الذي يسري على الجميع والفرص الممنوحة للكفاءة دون النسـب والحسـب والأصل والفصـل، فإذا بالشباب العربي المكبوت من قمع واستبداد الأنظمة، والجائع العاطل عن العمل، والمحروم من أدنى مستويات المعيشة الإنسانية، تتفجر طاقاته الكامنة ويحول مواقع وروابط التواصل الاجتماعي التي بين يديه في حجم هاتفه المتحرك، إلى آلة حربية بسرعة الضوء حديثة ومتطورة تشبه آلة تغيير الزمن.

وحقق الإنسان العربي في البلدان التي عانت من أنظمتها المستبدة، ومن خلال استغلال حرق البوعزيزي لنفسه بحثا عن كرامته، حقق هذا الإنسان أول خطوة للوصول إلى آدميته قبل الذهاب للقمر، وذلك من خلال عود ثقاب صناعة صينية!

وللحديث بقية.

Email