التضليل الإعلامي

ت + ت - الحجم الطبيعي

قد يواجه الإعلام العربي في الأعوام القادمة أسوأ فترات عصره، فبقدر ما ساعد في نجاح ثورات الربيع العربي، بقدر ما سيدفع ثمنا غاليا لذلك.

مشكلة الإعلام من الأساس، أنه سلاح ذو حدين، وأسوأ الأمور هي تلك التي تحمل حدين لا وسط بينهما. والخوف يكمن أكثر في يد من يا ترى سيقع هذا السلاح؟

والكل ممن عاشوا في القرن الماضي، وبالخصوص أثناء الحروب مع إسرائيل، يعلم كيف نقل الإعلام العربي الوضع على الجبهات بطريقة اعتقد هو أنها صحيحة، لأنها كانت تهدف إلى رفع معنويات الجيش العربي، واعتقدنا نحن بعد فوات الأوان بأننا كنا طوال تلك المدة مجرد ضحايا التضليل الإعلامي.

ولم يقبل الشعب العربي، بعد أن استفاق على صدمة الهزيمة، أن الإعلام قد جعل منه آخر من يعلم؛ وبعد أن ظل يعتقد أنه المنتصر في المعركة، اكتشف أنه كان مهزوما شر هزيمة. ولم يرحم التبريرات التي تبناها الإعلام تحت شعار رفع معنويات الجيش العربي، الذي كان يئن تحت نيران العدو الإسرائيلي. وأصبح يطالب بشفافية ووضوح وصدق أكبر، تشبه شفافية وصراحة الطبيب الذي يعالج المريض من مرض خبيث.

ولكن الإعلام ظل مستمرا بعد ذلك في التضليل الإعلامي، فحول الهزيمة إلى نكسة، والزعيم المهزوم إلى قائد وطني فذ ومنتصر، والدمار إلى بناء. وصدق الشعب العربي الكذبة مرة أخرى، وإذا به يشارك بنفسه في عملية غسيل المخ، تارة من خلال الشعارات الطنانة والأناشيد الفارغة، وتارة من خلال تناقل ما يرمى إلى مسامعه من أخبار ملفقة، بدلا من أن يثور ضدها.

ولمعت أسماء عديدة تخصصت في القيام بهذه المهمة. وظللنا على هذه الحال حتى غزو الكويت، حين اكتشف العالم العربي أن هناك قناة يطلق عليها قناة السي أن أن، التي كانت تبث أخبارها من الولايات المتحدة الأمريكية، وتنقل الأخبار المفصلة بالصوت والصورة على مدى الأربع والعشرين ساعة. حتى اكتشف العالم العربي متأخرا كعادته، أن تلك القناة (الحيادية والصادقة) كانت ممولة من قبل جهات مشبوهة، وأنها تنتمي إلى شبكة تضليل إعلامي دولي، أصبح الكل يعلم أن اللوبي الصهيوني هو من يحركه.

وخرجت بعد ذلك قنوات فضائية عربية، كرست طاقاتها كاملة للدفاع عن مواقفها الخاصة فقط، والتي وصلت إلى الحرب الإعلامية العربية العربية. وتحول المستمع المغبون إلى مشاهد مفتون، ومن ثم إلى زبون مضلل. فنفس الخبر أصبح يعرض على كل قناة عربية بالطريقة التي يرسمها مسؤولوها، وليس لدعم التضامن العربي والمصير المشترك.

وأصبح المشاهد العربي يصدق كل شيء، ثم بعد دقائق لا يصدق شيئا. فحينما ينتقل وهو جالس على أريكته الوثيرة من قناة إلى أخرى بلمسة زر، فإنما هو ينتقل من رأي إلى رأي معاكس. فعندما يستمع إلى أخبار قناة الجزيرة على سبيل المثال، يأخذه ثقل جميل عازر وهو يفضح النظام السوري، ويتأثر بدلال سهير القيسي ومكياجها وهي تعرض صور القتلى، وبعد ثوان وبمجرد أن يضغط المشاهد العربي ودون قصد على زر قناة المنار، ينبهر بصرامة حجاب منار الصباغ وهي تدافع عن نفس النظام.

وهكذا يظل المشاهد العربي تائها منذ زمن إذاعة صوت العرب من القاهرة، بين الصدق والخداع... إلى أن يتوفاه الله.

هذا الوضع هو الوضع القائم في هذه اللحظة، غير أن ما سيحدث غدا، سيكون أكثر تعقيدا، وقد يتسبب الإعلام العربي في عدم الاستقرار والحروب الأهلية، وربما تسبب في هلاك الأمة العربية بأكملها بضغطة زر واحدة!

وللحديث بقية...

Email