بؤس السياسة الفلسطينية

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ أن تجاوز الزمن بأحداثه الصعبة، البرنامج الذي وضعته حكومة الدكتور سلام فياض لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية تمهيداً لتحقيقها، وكان ذلك بإيحاءات قوية من المجتمع الدولي ارتد عنها لاحقاً، لم نسمع على لسان مسؤول فلسطيني وعداً بأن يكون العام المقبل عام الاستقلال والدولة، إلا حين صرح بذلك رأس الهرم السياسي الفلسطيني الرئيس محمود عباس، خلال عطلة عيد الفطر قبل بضعة أيام.

وبالتزامن كان رئيس الحكومة المقالة في غزة إسماعيل هنية، قد تجاوز التكهنات التي كانت تثير شبهة، مفادها أن حماس تسعى لإقامة إمارة أو دولة إسلامية، فأكد أن حركته تسعى لإقامة الدولة الإسلامية على كل الأرض الفلسطينية من البحر إلى النهر.

من الواضح أن هذا التزامن جاء بمحض الصدفة، ولم يكن في إطار ردود الأفعال بين الحركتين الكبيرتين، فتح وحماس، اللتين تتسم علاقاتهما بالتوتر، وتصاعد الاتهامات والاتهامات المتبادلة، في ظل تراجع الحركة الهادفة تحقيق المصالحة الفلسطينية.

تعكس هذه التوجهات حجم ونوع الخلاف، الذي تعمق كثيراً في ضوء التداعيات والنتائج الأولية لما يسمى بالربيع العربي، وأدت إلى اختلال موازين القوى بين حركتي فتح وحماس لصالح الأخيرة، التي لم تعد تشعر بالقلق على وجودها السلطوي في القطاع، رغم تصريحات وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي آفي ديختر، التي قال فيها مؤخراً إن غزة ولبنان تشكلان تهديداً استراتيجياً، بينما تشكل إيران تهديداً وجودياً لإسرائيل.

ليس هذا فقط، بل إن حماس في قطاع غزة موعودة، أو أنها تأمل بقوة، أن يؤدي انتخاب الإخواني ابن جلدتهم الدكتور محمد مرسي، إلى تحقيق انفراج في أوضاع القطاع، يسجل لصالح حماس وليس لصالح المصالحة الفلسطينية، فضلاً عن أن حكومة هنية اخترقت الحصار السياسي المفروض عليها عربياً.

ويتضح مع مرور المزيد من الوقت، والمزيد من التداعيات على مستوى السياسات الإسرائيلية ومواقف الرباعية الدولية، والربيع العربي، أن مساحة الخلاف تتسع أكثر فأكثر بين فتح وحماس. فبالإضافة إلى ما ورد، يصر الرئيس محمود عباس على خيار المفاوضات، ولا شيء سواه، لكن دون مفاوضات، وعلى السلام، مع عملية مستمرة دون سلام، حتى حين يصدر تصريح عن وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، يقول فيه إنه لا يمكن تحقيق السلام في ظل وجود عباس ومن معه، وعلى مقاومة شعبية دون مقاومة.. وتصر حركة حماس على تبني برنامج المقاومة دون مقاومة، لا مسلحة ولا شعبية، وهي تراهن على مسيرة التاريخ، وعلى تطورات الوضع العربي والإسلامي.

يمكن للمرء أن يتفهم أن ظروف قطاع غزة، حيث يخلو من الوجود الاحتلالي الاستيطاني والعسكري، لا تسمح بتفعيل المقاومة الشعبية أو المسلحة بالمعنى الحقيقي لجوهر المقاومة المسلحة، ويمكن أيضاً أن يتفهم المرء حرص حماس على عدم إعطاء إسرائيل الذريعة لارتكاب جرائم ضد القطاع، وإضعاف سيطرة الحركة عليه، لكن لا أحد يتفهم لماذا لا تبادر حماس، التي تحظى بوجود قوي في الضفة، إلى تفعيل المقاومة الشعبية أو المسلحة هناك، رغم أننا لسنا من أنصار تفعيل المقاومة المسلحة في ضوء معطيات الوضع الراهن.

لا مفاوضات جارية أو ممكنة فيما تؤكد المعطيات، ولا مقاومة شعبية أو عسكرية، ولا مصالحة تعيد للشعب والنظام السياسي لحمته ووحدته، ولا إمكانية لانتفاضة جديدة في ضوء الانقسام الفلسطيني وحالة الاستقطاب والصراع. إذاً، كيف يدير الفلسطينيون صراعهم مع الاحتلال؟ وما هي ملامح الاستراتيجية الفلسطينية؟ وبأي أدوات وأشكال يناضل الفلسطينيون في مواجهة سياسات ومشاريع إسرائيلية تنهب الأرض بالاستيطان والجدار، وتنهب المقدسات والتاريخ الفلسطيني في القدس ومحيطها؟ وهل يمكن التعويل على الإعلام فقط وانتظار غودو، الذي لن يأتي وإن أتى فمتأخراً جداً؟

في هذه الأيام يطرح مرة أخرى وبقوة، خيار الذهاب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، للحصول على قرار يمنح الدولة الفلسطينية صفة عضو مراقب. ها نحن نقترب من موعد هذا الاستحقاق في سبتمبر، دون أن نشعر بوجود إرادة قوية وقرار حازم، والخشية أن تتراجع القيادة الفلسطينية تحت وطأة الضغوط التي تمارسها الإدارة الأميركية، من باب حاجة السلطة للمال، ولأنها لا ترغب في نقل الملف إلى الأمم المتحدة، أو أن تقدم السلطة على إجراء يمكن أن يؤدي إلى استفزاز إسرائيل، خصوصاً قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية.

ثمة تردد فلسطيني إزاء هذا الخيار حتى الآن، الأمر الذي يعني حالة فراغ سياسي لا يمكن للتصريحات النارية وغير النارية أن تملأه، أو أن تخفف من تداعياته الخطيرة، خصوصاً بعد أن تزايدت هجمات المستوطنين على الفلسطينيين، وتصاعد دورهم، إلى الحد الذي جعل الإدارة الأميركية تعترف في تقرير الخارجية السنوي لعام 2011، بأن ممارسات المستوطنين ترقى إلى مستوى الأعمال الإرهابية، وإدانتها لبعض الاعتداءات التي قام بها المستوطنون خلال الأشهر المنصرمة.

في ضوء ذلك، هل يمكن المراهنة على ربيع فلسطيني يتماهى مع الربيع العربي ولو بنسخة منقحة؟ بصراحة، الأمل ضعيف بدور تقوم به الفصائل الأخرى، التي ترفض الانقسام وترفض هذا التشرذم والضياع، لكن الأمل ضعيف أيضاً إزاء المراهنة على دور الشباب، الذي تبعثر تحت ضغط القمع في الخامس عشر من مارس المنصرم، وبات هو الآخر، مشرذما، ضائعا، وغاضبا، دون أن يعرف كيف ينظم صفوفه، وكيف له أن يتحرك.

ورغم هذا الوضع، فإن على القيادات السياسية أن تتحسب للحظة انفجار الخزان الذي يغلي وتتصاعد حرارته، ومن لا يصدق عليه أن يراجع التاريخ الفلسطيني البعيد والقريب. إن أحداً لم يكن يتوقع انفجار الشارع الفلسطيني واندلاع الانتفاضة الشعبية الكبرى، التي استمرت من سبتمبر 1987 إلى مشارف العام 1993. وإذا كان الكثيرون توقعوا انفجار الانتفاضة الثانية عام 2000، فإن القليل منهم توقع أن تستمر لبضع سنوات، دفع خلالها الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً.

إن الشعب الفلسطيني لم يتعود أن يعيش في ظل القمع ومصادرة الحريات، والفقر والبطالة، وغياب الأحلام الكبيرة والصغيرة، وتداعي الأهداف.. ولعل القيادات السياسية هي أول من يدرك هذه الحقيقة، لكنهم لا يجترحون العبرة.

Email