الأولمبياد.. صناعة الأبطال والسياسة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أسدل الستار على الألعاب الأولمبية في العاصمة البريطانية لندن، بحضور شخصيات سياسية بارزة من عدة دول في جميع أنحاء المعمورة، وفاق عدد الحضور خلال مراسم الافتتاح والاختتام، 70 ألف متفرج، وأمام شاشات التلفزيون عبر القارات الخمس فاق ملياري نسمة.

هذا الحضور والاهتمام العالمي، يعتبر فرصة ذهبية للساسة والدول لإبراز العضلات والقوة، واستغلال الاهتمام الجماهيري لتمرير الرسائل السياسية التي يريدها هذا الرئيس أو ذاك الزعيم. الألعاب الأولمبية لم تعد لعبة ورياضة فحسب، وإنما تخطت هذا البعد الرياضي لأبعاد أخرى مثل الاقتصاد والسياسة.

الرياضة إذاً، في القرن الحادي والعشرين، ليست مجرد رياضة بريئة، بل هي تجارة ورعاية وإعلانات وسياسة.. الخ. وصدق "هتلر" يوما عندما قال "إن ملايين الناس المدربين على الرياضة الشغوفين بحب الوطن المتشبعين بالروح الهجومية، يمكن أن يتحولوا في رمشة عين إلى جيش".

فالمنتخب البرازيلي الفائز بكأس العالم لكرة القدم سنة 2002، جعل 170 مليون برازيلي ينسون هموم الفقر والمشاكل اليومية وسوء الإدارة والتسيير من قبل الحكومة البرازيلية، واستطاع أن يجعل هذه الملايين من البشر ترقص السامبا في عرس واحد وحفل واحد، الأمر الذي تعجز عن تحقيقه أية مؤسسة أخرى داخل البرازيل.

ومن خلال الفوز بكأس العالم أدرك الرأي العام البرازيلي أنه بخير، وأنه الأحسن والأقوى عالميا في ميدان كرة القدم، وهذا إنجاز عظيم. أكثر من هذا أن شعوبا في دول أخرى عديدة، رقصت السامبا وساندت الفريق البرازيلي. هذه هي إذاً الرياضة التي تخترق الهموم والمشاكل، وتبرز الإنجازات والنجاحات.

في القرن التاسع عشر، ربطت القوى الاستعمارية التطور والتفوق الرياضي بحركة الاستعمار وتفوق النظام الرأسمالي الغربي، وأصبح المتفوق في الرياضة هو المتفوق في الاقتصاد والسياسة وفي الحضارة، والمنتصر في الحرب أيضا.

وهكذا دخلت الرياضة السياسة، وكيف لا وهناك دول استثمرت مليارات الدولارات لاستضافة بطولة العالم لكرة القدم أو الألعاب الأولمبية وغيرها من المناسبات الرياضية العالمية أو الإقليمية؟ وبذلك تم توظيف الرياضة في خدمة السياسة، وأصبحت السياسة الرياضية جزءا لا يتجزأ من سياسات الدول، وأصبح الأبطال في مختلف الألعاب والرياضات، وخاصة الأكثر شعبية ككرة القدم، يقلّدون الأوسمة ويستقبلون استقبال المحررين المنتصرين.

ومع مطلع القرن العشرين تحوّلت الملاعب إلى فضاءات للدعاية السياسية وللتجنيد وغسل الأدمغة، وحتى للانقلابات العسكرية. وعبرت الشعوب المستعمرة (بفتح الميم) عن حقها في تقرير مصيرها، من خلال مشاركاتها المختلفة في المحافل الرياضية الدولية، وكان فريق جبهة التحرير الوطني الجزائري إبان استعمار فرنسا للجزائر، خير سفير للقضية الجزائرية، ونلاحظ اليوم المنتخبات الفلسطينية ودورها الريادي والاستراتيجي في التعريف بالقضية الفلسطينية وإسماع صوت أطفال الحجارة للعالم.

كما عبّرت الأقليات والأعراق عن حقوقها من خلال الرياضة، وخير دليل على ذلك الزنوج الأميركيون، ابتداء من العداء المشهور "جيسي أوينس"، إلى الملاكم العالمي محمد علي الذي رفض أن يلتحق بالجيش الأميركي في حرب فيتنام.

وبلغ استغلال الرياضة سياسيا ذروته مع صعود الأنظمة الشمولية. ففي سنة 1934 استضافت إيطاليا بطولة العالم لكرة القدم، واستغل الفاشيون الحدث وحوّلوا الملاعب إلى حلبات للدعاية وغسل الأدمغة وتجنيد الجماهير، واستغلال حماسهم وروحهم الوطنية ومشاعرهم القومية.

وفي سنة 1936 استقبلت ألمانيا النازية الألعاب الأولمبية، وجمعت برلين الرياضيين من جميع أنحاء العالم، لكن بشرط أن يعلم الجميع أن العرق الآري هو أحسن عرق فوق الأرض، وأنه وُلد ليتفوق وليحكم العالم. وهكذا زحفت ألمانيا من الملاعب المختلفة للرياضات الأولمبية، إلى غزو جيرانها وإعلان الحرب على العالم.

الأيديولوجية الاشتراكية والشيوعية بدورها، استغلت الرياضة لتأكيد تفوقها وقوتها. فالاتحاد السوفييتي ومن كان يدور في فلكه، وخاصة ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) ورومانيا وبلغاريا والمجر وتشيكوسلوفاكيا، كانت كلها تستثمر استثمارا لا حدود له في مجال الرياضة، وتنفق مئات الملايين من الدولارات على رياضييها، وأحيانا تستعمل المنشطات وكل الوسائل للتفوق على المعسكر الرأسمالي.

وكان الصراع يشتد دائما بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي في المحافل الرياضية الدولية، وكانت دولة مثل ألمانيا الديمقراطية بحجمها الصغير وإمكانياتها المحدودة آنذاك، تهزم في المسابقات الرياضية العالمية دولاً عريقة، مثل فرنسا والولايات المتحدة الأميركية وإيطاليا وبريطانيا واليابان.. الخ.

وابتداء من سبعينات القرن الماضي ظهرت الحروب الخفية في المجال الرياضي، باستعمال المقاطعة الرياضية. ففي سنة 1976 قاطع معظم الدول الإفريقية الألعاب الأولمبية، احتجاجا على مشاركة نيوزيلاندا التي كانت تقيم علاقات سياسية واقتصادية مع الأبارتيد في جنوب إفريقيا. وفي سنة 1980 قاطع أكثر من 60 دولة الألعاب الأولمبية في موسكو، احتجاجا على غزو الاتحاد السوفييتي لأفغانستان.

وفي الألعاب الموالية سنة 1984 ردّ المعسكر الاشتراكي الصاع صاعين وتعامل بالمثل، وقاطعت 18 دولة الألعاب الأولمبية التي استضافتها الولايات المتحدة الأميركية في لوس أنجلوس، متعذرة في ذلك بانعدام الأمن.

المونديال والألعاب الأولمبية والرياضة بصفة عامة، ليست فقط كما نظّر لها بيير دي كوبرتان وغيره، باعتبارها مبادئ ومثلاً عليا وترقية للمنافسة الشريفة، وتربية للشباب بواسطة الرياضة وروح التفاهم المتبادل والصداقة من أجل بناء عالم أفضل وأكثر سلما، عالم تسوده القيم الإنسانية العليا والأخلاق والمحبة والوئام، وإنما هي كذلك مظهر من مظاهر الصراع السياسي بين دول تتنافس وتتصارع كلها من أجل إثبات أنها هي الأقوى وهي الأحسن والأجدر بالفوز.

ولكن، هل بإمكان كرة القدم أن توّحد الكوريتين؟ وهل مشاركة العراق وأفغانستان في أولمبياد أثينا ستقضي على أعمال التخريب والجرائم والقتل وعدم الأمن والاستقرار في البلدين؟ وهل الأداء الجيد لبعض الدول الفقيرة في الأولمبياد سيحل هموم ومشاكل شعوبها؟!

 

Email