هجوم رفح.. فكروا ثانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

حسب الرواية المتداولة الآن، فإن الهدف النهائي للهجوم على "كمين" الجنود المصريين في رفح، كان مهاجمة "الكمين" الإسرائيلي المقابل، بدليل توجه المهاجمين بالمدرعتين المصريتين المسروقتين تجاه النقطة العسكرية الإسرائيلية في معبر كرم أبو سالم.

لنتقمص دور المهاجمين ونفكر مثلهم، في محاولة للفهم وربط أطراف الأحجية. إذا كان هدف العملية هو مهاجمة النقطة العسكرية الإسرائيلية وليس المصرية في الأساس، فإن الهجوم مثلما يرد في الرواية المتداولة الآن، هو "عملية تمويه" على الهدف الأصلي.

لكن فرضية كهذه تقتضي من الناحية العملانية والتكتيكية المحض، حسابا دقيقاً للوقت. الوقت الذي سيستغرقه الهجوم على الموقع العسكري المصري، والاستيلاء على الآليات العسكرية، وحساباً لرد فعل محتمل من جنود النقطة العسكرية المصرية، وإمكانية تأخر العملية، وخسائر محتملة في صفوف المهاجمين، وأخيراً حساب المسافة التي ستقطعها المدرعات قبل الوصول إلى النقطة الإسرائيلية أو موقع قريب، لبدء الهجوم ("المفترض") عليها.

إذا كانت روايات بعض شهود العيان قد أشارت إلى أن عملية إطلاق النار داخل الموقع المصري، استغرقت ما بين 5 إلى 9 دقائق، فإن التوقيت لافت ويتعين أن يستوقفنا، وهو موعد "الإفطار". أشار الشهود إلى إن جثث الشهداء المصريين كانت مسجاة قرب صحائف طعامهم. اختيار هذا التوقيت ليس اعتباطياً.

ولا ينم فقط عن معرفة بطبائع المصريين والعرب والمسلمين عموما في رمضان، بل ينم عن مراقبة دقيقة ورصد لحركة عسكريين مصريين في موقع عسكري على الحدود. هنا، يرن جرس هائل في الذهن، ويعيدني هذا التفصيل إلى حدث تاريخي مفصلي في تاريخ مصر والعرب جميعاً، هو هزيمة يونيو 1967.

كان تدمير الطيران الحربي المصري آنذاك، إنجازاً يعود إلى رئيس جهاز الموساد وقتذاك "مير عميت". فلقد أبلغ عميت قادة الجيش الإسرائيلي أن الوقت المناسب لتوجيه ضربة لسلاح الطيران المصري، هو الصباح. كانت معلومات عميت دقيقة، نقلها له جواسيسه من صغار العاملين في بعض القواعد الجوية المصرية قرب الجبهة.

أهم ما توصل إليه عميت من خلال معلومات جواسيسه، هو الوقت الذي يستغرقه إعداد المقاتلات للطيران، والوقت الفاصل بين وصول الطيارين للقواعد وتأهبهم للصعود إلى المقاتلات.

لم يكن الوقت سوى 30 دقيقة، بين الثامنة والربع والثامنة وخمس وأربعين دقيقة، قبل أن تكون القواعد الجوية بكل أطقمها في مستوى الجاهزية القتالية. بناء على هذه المعلومات، بدأت الضربة الجوية في الثامنة ودقيقة بالضبط. إن السيناريو الذي سارت به العملية، يدفع للشك في دوافع الهجوم نفسه، فالهجوم على النقطة المصرية محسوب بدقة، لكن الثغرة في هذه الرواية هي إغفال رد فعل الجنود الإسرائيليين في النقطة المقابلة.

فهل من الممكن أن يقع هجوم وإطلاق نار على الموقع المصري دون أن يلحظه ويراقبه الإسرائيليون؟ إن مجرد إطلاق رصاصة واحدة، يكفي لاتخاذ وضع التأهب في النقطة الإسرائيلية. هنا لدى الإسرائيليين من 5 إلى 9 دقائق، كما جاء في روايات الشهود من سكان المنطقة المجاورة للنقطة المصرية، وهي أكثر من كافية للتأهب.

 وإذا ما سايرنا السيناريو المتداول الآن، وهو توجه المهاجمين بالمدرعتين المسروقتين صوب النقطة الإسرائيلية، فإن لدى الجنود الإسرائيليين إمكانية وميزة الرد مباشرة، قبل أن تصل المدرعات إلى منطقة تكفي لتهديد الإسرائيليين.

دعونا نسأل: من يمكنه أن يفكر في عملية تستهدف الإسرائيليين تجري على هذا النحو؟ وإذا كان الهدف هو مهاجمة الإسرائيليين فلماذا تحولت عملية التمويه (المفترضة) إلى أن تصبح هي العملية الأساسية إلى الحد الذي يعطي الإسرائيليين الوقت الكافي للرد وبشكل حاسم؟

إمعاناً في تقليب فرضيات دوافع الهجوم، لنساير منطقاً آخر يرى أن ثمة من يريد دفع مصر إلى موقف أقوى وأشد حيال إسرائيل، بل ولربما جرها إلى مواجهة عسكرية من أي نوع مع إسرائيل.

قد يكون منطق مثل هذا مبنياً على حسابات تليق بمن يرى ضرورة الاعتماد على القوة في مواجهة إسرائيل، عبر دفع المصريين لتشكيل رأي عام يتبلور ضمن هذا الاتجاه، ليصبح فيما بعد (وبدوافع الثأر للشهداء والكرامة) تيارا ضاغطاً داخل المجتمع المصري، ويمثل عقبة أمام الرئيس مرسي وتيار الإخوان والإسلاميين عموماً.

لكن هنا يتعين أن نتوقف أمام التوقيت؛ فالعملية جاءت بعد أيام من زيارة رئيس وزراء حكومة حماس، إسماعيل هنية، لمصر وما رافقها من اتفاقات (رغم محدوديتها) أعطت زخماً واضحاً للعلاقات المصرية الفلسطينية، خصوصا مع قطاع غزة. والشهر المقبل ستتوجه السلطة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة لنيل العضوية غير الكاملة فيها، وهي خطوة اعترف الإسرائيليون بأن الفلسطينيين سينجحون فيها، لأنهم يتمتعون بأغلبية كافية ستصوت لهم.

الهجوم كله قاد إلى نتيجة واحدة، هي أن مصر مطالبة وتحت ضغط شديد، بأن تبادر إلى رد فعل. لكن ما هو رد الفعل هذا؟ عدا متطلبات الجانب الأمني المباشر، فإن الإرباك حقيقة واضحة الآن في الموقف المصري، ويبدو هدفاً واضحا للعملية، يبدأ بخلق حالة من الضغوط الهائلة على الرئيس مرسي والجيش المصري.

أحد المؤشرات والدلالات الملموسة لهذا الهدف/ الحالة، هو ردود الفعل الدائرة الآن في مصر، خصوصا موجة الانتقادات الحادة والعدمية في بعض وجوهها (السخرية المفرطة)، للرئيس مرسي والجيش ووزير الدفاع المشير طنطاوي، حيث تحول الهجوم بحق إلى أزمة داخلية بامتياز.

إلى الضغوط والإرباك الذي خلقته العملية لمصر، فإن النتائج المباشرة للهجوم، توضح أن هناك طرفين أساسيين خاسرين، هما مصر والفلسطينيون. فالنتائج المباشرة هي: إغلاق المعابر، توقف إمدادات الغاز لغزة، تدهور العلاقات المصرية الفلسطينية، وتأزيم شديد لأوضاع مصر الداخلية.

من نفذ الهجوم؟ إذا نحينا جانبا (بدافع المنطق وحده) المجرمين والمهربين وحتى الإسرائيليين، يصح أن نتساءل عن أي نوع من التفكير هذا الذي يقود إلى عملية من هذه النوع، لم تأت نتائجها إلا بالخسائر لمصر والفلسطينيين؟

يبدو الإسرائيليون الآن كمن أسدى خدمة للمصريين بضرب المهاجمين. خدمة "جليلة" قدموها بضجيج إعلامي، بدأ منذ أن أطلقت حكومة إسرائيل في 2 أغسطس، بطريقة لافتة في صخبها، تحذيرا لرعاياها بالخروج من سيناء. التحذير و"الخدمة اللاحقة"، ليست سوى تذكير دموي للرئيس مرسي وللمصريين عموما، بالجدوى التي تصل إلى حد "الضرورة" للتعاون الأمني المصري مع إسرائيل.

 

Email