الانترنت والتاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما أتصفح موقعي التواصل الاجتماعي "فيسبوك" و"تويتر"، أصاب بتوتر شديد وينتابني شعور قوي بالرد على عشرات، بل مئات التدوينات والتغريدات.

لست من أولئك الذين ينحون باللائمة على أعاجيب الانترنت هذه، بقدر ما يستوقفني في المتابعة اليومية الدقيقة التي تستغرق ساعات أحيانا، أن جزءاً غير قليل من المشاركين في الجدل السياسي خصوصاً، ينطلقون من ذاكرة قصيرة ومثقوبة تجعل مشاركاتهم أقرب للهذيان.

يأخذ هذا الجدل أشكالاً متنوعة، لكن ما إن يتم استدعاء التاريخ، إلا وتجد أن الذاكرة لا تعي من الأحداث التاريخية إلا جملاً وعبارات دعائية، أكثر منها حقائق. على هذا فإن التوتر الذي ينتابني، نابع من رغبة في تصحيح معلومات الكثير من المتداخلين، أكثر من المجادلة وخوض نقاش بجمل قصيرة، لأن هذا النوع من الجدل بالنسبة لي أقرب إلى معركة كلامية منه إلى حوار جاد.

هل يعود الأمر إلى أن جل مستخدمي هاتين الوسيلتين ينتمون لجيل شاب يعيش قطيعة ـ قد تكون طبيعية ـ مع التاريخ؟ قد يكون هذا سبباً وجيهاً، لكن جدلاً من هذا النوع يفتقر لأي حساسية للتاريخ، يمارس تأثيراً بالغ الأذية على الذاكرة. فالمتجادلون يتقبلون التلفيق والمعلومات المنقوصة والأحداث المطروحة خارج سياقها، دون تمحيص أو استدراك.

يلعب الطابع المموه للمشاركات وإمكانية انتحال الأسماء والصفات، دورا إضافياً واضحاً في ما يمكن أن أسميه هجوما على الذاكرة الجماعية. ربما كان هذا أحد دوافعي لكتابة مقال الأسبوع الماضي (24 يوليو) "أسوأ أنواع الجدل"، فالجدل على شبكات التواصل هو بحق من ذلك النوع العدمي؛ "ما لا أعرفه ليس موجوداً".

وعدا أولئك الذين لا يكتبون أكثر من السباب والشتائم، قد ألتمس العذر للمتجادلين، لأن استخدام شبكات التواصل يفصح عن حقيقة ما زال الكثيرون يشيحون عنها بوجوههم، أو أنهم لم يستوعبوا تأثيرها الحقيقي. إنها القطيعة التاريخية التي بلغت ذروتها مع ثورات الربيع العربي في أكثر من بلد.

قطيعة تبدو واضحة عندما يبدأ الجيل الجديد في التعبير عن نفسه بالاحتجاج، ومن ثم المواجهة والصدام ومواصلة التحدي بأثمان باهظة. فهذا يشير بجلاء إلى أن الأجيال الشابة تتمرد على منظومة السياسة والثقافة والتقاليد، التي التزم بها آباؤهم وأجدادهم وتقبلوها أو تعايشوا معها قسراً.

وقبل حوالي الشهر، كنت أستمع لمناقشات في محطة "بي بي سي" عن مصر، عندما استوقفتني مداخلة لأحد المشاركين أضحكتني قليلا، لكن مدلولاتها قد تلخص ما نحن بصدده حول هذه القطيعة. لقد قال الرجل بصيغة استنكار: "شوية عيال لسه بياخذوا مصروفهم من أبهاتهم (آباؤهم) هم اللي حيقرروا مصير البلد". صاحب هذا الرأي يعبر بجلاء عن معاندة الجيل الأقدم (بثقافته ومنظومة القيم التي يؤمن بها)، في تقبل حقيقة أن يكون للجيل الأصغر من المصريين رأي مسموع، لا في مطالب تخصهم فحسب، بل في أوضاع البلد بأسرها.

ولو وضعنا جانباً كل التحليلات المسهبة حول دواعي ومسببات الثورات، فإن تصدر الجيل الجديد من السكان لهذه الثورات، يثبت هذه القطيعة التاريخية حتماً.

أول ما يثبت هذه القطيعة، هو طابع هذه الثورات ووسائلها. فهي أقرب للانفجار الاجتماعي منها إلى الثورات التي تقودها وتخطط لها أحزاب سياسية متمرسة أو فئات اجتماعية بعينها. تلك كانت وسيلة الأجيال الأقدم، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية على الأقل، لكن مع آخر السنوات العشر الأولى من الألفية الثالثة للميلاد، حل الانترنت مكان المنشورات المطبوعة والموزعة سراً.

أما خطط العصيان والاحتجاج فقد أصبحت لا تحتاج إلى أكثر من نداء على شبكات التواصل، بدلاً من مطابخ الأحزاب والتثقيف السياسي ورفع وعي الجماهير، التي حلت مكانها موسيقى "الراب".

وبدلا من منظري الثورات، ثبت جلياً أن التظاهر والاحتجاج لا يحتاج إلا إلى شرارات، ولربما تدوينة على الانترنت. هذا كله يشير إلى احتقان كامن بالتأكيد، وأوضاع غارقة في أشكال من العطب واستنفاد المدى والصبر.

وإذا كانت الدعوات تتصاعد لترشيد استخدام هذه الوسائل، فإن دعوات كهذه تعبر بجلاء عن أن هناك آراء من نوع جديد، غير معتادة ومغايرة يجري تداولها على الشبكة. آراء ووجهات نظر، تعبر في شكل من الأشكال عن قطيعة ما مع ثقافة سائدة لأجيال أقدم. دعوات الترشيد هذه تذكرنا على الدوام بتلك الدعوات التربوية لترشيد السلوك في العالم الواقعي، والخلاصة الوحيدة المتاحة أمامنا، هي أن ما يجري على الشبكة ليس بالضرورة امتداداً لما اعتدنا عليه، فهي وسيلة جديدة لجيل جديد.

في سنوات مراهقتنا، كنا نسير على أقدامنا إلى المكتبة العامة لكي نستعير كتاباً، وكان بعض المؤلفات كفيلا بأن يخلب ألباب جيل بأكمله، ولقد قدر لمفكرين بعينهم أن يطبعوا بتأثيرهم أجيالا متعاقبة. لكن أبناءنا اليوم لا يحتاجون لمثل هذا التأثير، ولن تجدوا في غرفهم رفوفا للكتب (عدا كتب المدرسة أو الجامعة)، بل جهاز كمبيوتر يجلب لهم الكتب التي يريدون والعالم بأسره، بضغطة زر.

ملامح تغيير ما زلنا نعيش في إرهاصاتها، وما يقلقني هنا هو أن أحد الأعراض الجانبية ـ إن صح التعبير ـ لهذا الاستخدام المكثف لشبكات التواصل، هو ذلك الهجوم على الذاكرة الجماعية.

لكن إذا كانت القطيعة تعد ظاهرة حتمية في دورات التاريخ، بحكم الزمن وحده على الأقل، فإن المقلق هو أن لا نستوعبها ونتداركها. فليس هناك من معنى للاستفادة من التاريخ، أكثر من السعي لتفادي الوقوع في أخطائه من جديد.

Email