أميركا والتعامل مع مصر الجديدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل قررت واشنطن اعتماد سياسة جديدة تماما نحو مصر، تجاوبا مع أهداف ثورة الخامس والعشرين من يناير؟

ما يستفاد من البيانات التي أعلنتها وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في القاهرة مؤخرا، هو أن الولايات المتحدة قد وطنت نفسها على التحرر نهائيا من الارتهان إلى العلاقة التحالفية مع نظام حسني مبارك، لتدعم حركة التغيير الديمقراطي المتفاعلة في مصر، دعما سياسيا مسنودا بدعم اقتصادي. ومما يلفت الانتباه بصورة خاصة، أن واشنطن تقدم طرحها العلني هذا كاستراتيجية ثابتة، لا كتكتيك مرحلي مؤقت.

والسؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح هو: ما مدى مصداقية هذا الطرح الأميركي الجديد؟ وهل هو حقا تغيير استراتيجي جذري وشامل؟

للإجابة عن هذا التساؤل، علينا أولا أن نستنطق التاريخ وصولا إلى الحاضر، من أجل استشراف المستقبل.

للعلاقات الأميركية مع مصر قصة تمتد عبر خمسة عقود زمنية أو أكثر. بدأت القصة في مطلع النصف الأول من عام 1952، حين تبلورت علاقة تحالفية بين الولايات المتحدة وقيادة ثورة يوليو المصرية. كان هدف واشنطن هو استقطاب مصر للاصطفاف في خندق واحد مع إسرائيل وأميركا ضد الاتحاد السوفييتي، وذلك لصد المد الشيوعي العالمي.

بادئ الأمر لم يكن الهدف الأميركي الاستراتيجي بهذا الوضوح أمام قادة الثورة المصرية، لكن أحداثا تالية فضحته عمليا. فقد رفضت واشنطن بصلابة طلبا من الرئيس جمال عبد الناصر لشراء أسلحة أميركية متقدمة، حيث كان ناصر يعد العدة لاحتمالات مجابهة إسرائيل. وتحول الرفض الأميركي إلى غضب شرس، عندما حصل الزعيم المصري على ما أراد من المعسكر السوفييتي.

وكرد على هذا التحرك الناصري الحاسم، تنصلت الولايات المتحدة من وعدها لمصر بتمويل مشروع إقامة السد العالي، عن طريق البنك الدولي الذي تتحكم في أدائه واشنطن. وتضاعف الغضب الأميركي، عندما توجه عبد الناصر مرة أخرى نحو موسكو، وعلى الفور وافق الاتحاد السوفييتي على تمويل المشروع. وهذا التطور تزامن مع قرار عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس، من أجل توفير المزيد من التمويل لبناء السد العالي.

وهكذا ومع هذه التطورات الخطيرة، انهار التحالف الأميركي ــ المصري تماما.. وبذلك صارت مصر الناصرية ــ من وجهة نظر واشنطن ــ العدو الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط. واتخذ هذا العداء المستحكم أشكالا متنوعة، فتعرضت مصر بموجبه لحملات اقتصادية وحروب دبلوماسية على مستوى عالمي. لكن مصر الناصرية استطاعت بنهجها الاستقلالي في ساحة العلاقات الدولية، أن تصمد ضد هذه الحملات.

لقد بلغ العداء الأميركي المحموم ذروته الأعلى في عام 1967، حينما تدخلت الولايات المتحدة في سياق الحرب الإسرائيلية على مصر، كطرف داعم لإسرائيل بالسلاح والمال، بالإضافة إلى المؤازرة الدبلوماسية على صعيد مجلس الأمن الدولي.

وتمددت حالة العداء الأميركي المتصاعد، إلى أن رحل عبد الناصر عن الدنيا.

أما في عهد كل من السادات ومبارك، ابتداء من منتصف سبعينات القرن الماضي وحتى اشتعال ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 والإطاحة بالرئيس مبارك، فإنه يمكن القول دون مبالغة إن مصر صارت مستعمرة أميركية، تحول رئيسها عمليا إلى مجرد موظف لدى الإدارة الأميركية.

وبعد.. إذا أخذنا هذا السجل التاريخي في الاعتبار، فهل نتوقع تغييرا جوهريا في سياسة الولايات المتحدة تجاه مصر في العهد المصري الجديد؟

إن المبدأ الجوهري الثابت الذي تنطلق منه السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط ،هو ضمان أمن إسرائيل وضمان أن تبقى الدولة الإسرائيلية على الدوام هي القوة الإقليمية الكبرى، المتفوقة في المنطقة على مصر بالدرجة الأولى.

قد تحدث تغييرات في السياسة الأميركية نحو مصر من حيث المقاربة وأسلوب التعامل، لكن هذا المبدأ الجوهري لن يطرأ عليه أي تغيير بحال من الأحوال.

على هذا الأساس فإن تقريظ هيلاري كلينتون للمسيرة الديمقراطية في مصر وتعهدها بدعمها، ليسا سوى تكتيك وقتي إلى حين.

 

Email