أسوأ أنواع الجدل

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل النقاش عملية دائرية؟ آراء تطرح وتتقابل وتتصادم في خط واحد ينطلق ليعود إلى نقطة البداية؟ أم أنه عملية تصاعدية؟ بمعنى أن دورة النقاش تبدأ متصاعدة إلى الأعلى ليخلص المتجادلون أخيرا إلى الاتفاق على فكرة أو اثنتين؟ أو اكتساب معلومة أو اثنتين أو أكثر؟ هل تستتبع نقاشاتنا تعديلا لبعض الأفكار وتصحيحاً لأخرى وجلاء لفكرة غامضة أو تصحيحا لمنطق ما؟

حكمة الجدل التي تقول إن علينا أن نركز على "ماذا يقول" وليس "من يقول"، أصبحت مقلوبة لدينا، فالشخص هو المحور الأول للنقاش، وليس ما يقوله. لهذا فإن نقاشاتنا تكتسب دوماً طابع التشهير، التعريض بالأشخاص لا مناقشة أفكارهم. وأصبح الجدل لدينا أسوأ ما يمكن أن يخوضه الأشخاص من أصحاب الأفكار أو الآراء المختلفة أيا كانت، ومقابلاً آخر للابتذال بصور شتى.

أيا كانت أداة الجدل والمناقشات وساحاته؛ كتب، ندوات، صحف، تلفزيونات، إذاعات، مواقع تواصل اجتماعي.. تعيدنا الآراء والمداخلات، والمداخلات المضادة والتعقيبات إلى أنواع قديمة متجددة من الجدل، خبرها الناس طويلا، هذه أبرزها:

الأول؛ "ما لا أعرفه ليس موجوداً". وهو النوع السائد من النقاش، فالجهل بالتاريخ مثلاً ومحدودية المعرفة والاطلاع على أوضاع أخرى ومجتمعات أخرى وتجارب إنسانية أخرى، يدفع أصحاب هذا النوع من الجدل إلى إنكار كل فكرة أو رأي، لسبب وحيد هو أنهم لا يعرفونها بأي شكل ولم يسمعوا بها من قبل. لا تستهينوا بالتأثيرات الكبرى لهذا النوع من النقاش، لأنه السائد بين الناس في الحياة اليومية، وفي السياسة والفكر أيضا، وله صور وتنويعات أخرى مثل: "ما لا أعرفه ليس ممكنا"، أو "ليس منطقياً".. يمكن اعتباره نوعاً من أسلحة الدمار الشامل.

الثاني؛ "الفكرة التي أحملها لا تحتمل الخطأ". نوع آخر رائج، وفي خلط بين الدفاع عن الرأي حتى اللحظة الأخيرة والتمسك بالكبرياء الشخصي، يعيد أصحاب هذا النوع من الجدل تكرار الفكرة الواحدة، وكأن العالم قد توقف عندها فحسب.

الثالث؛ "التفاصيل غير مهمة، المبدأ هو الأهم". بقدر ما يعبر عن عناد وتعصب، فإنه يعبر عن ذهنية عاجزة عن الفهم من خلال التفاصيل. في حالات أخرى يعبر عن خوف كامن من أن تؤثر التفاصيل في قناعة أصلية، أو أن تقلبها أو تحولها في اتجاه آخر، أو التشكيك في صحة معلومة بنيت عليها القناعة التي بدأ بها النقاش، أو وقف حل يراد فرضه.

الرابع؛ "لم يرد هذا في آخر كتاب قرأته". نوع شائع في الغالب لدى المثقفين، يظهر أصحابه عناداً في تقبل حقيقة أخرى وردت في كتاب أو كتب أخرى لم يقرأوها، أو تجربة لم يسمعوا بها، أو أحداث سابقة لا يعلمون بها.

الخامس؛ "الحل في آخر كتاب قرأته"، أو في نسخة أخرى.. صورة أخرى من النوع الرابع. في الغالب، يوالي أصحاب هذا المنطق التبشير بآخر كتاب قرأوه، وكأنهم قد وجدوا الحل الأمثل لكل المشكلات. يتصرفون في النقاش وكأنهم قد أمسكوا بقرني الثور، لذلك تجد عباراتهم مليئة بمفردات التفاؤل، ويقدمون جوابا لكل معضلة أو مشكلة يطرحها خصمهم في النقاش، وغالباً بالاستشهاد بعبارات من الكتاب نفسه.

السادس؛ "فلان لم يقل هذا". يعبر في الغالب عن التشكك في الإحالة للآخر (فلان)، وقد تكون إحالة لزعيم أو مفكر أو شخصية هامة.. أصحابه في الغالب من الهواة في السياسة، الذين تأسرهم الحركات الخلابة والبلاغة الخطابية.

السابع؛ "هل تستهين بمعرفة فلان وخبرته؟"، نوع متطور من النوع السادس الآنف الذكر. ورغم ارتباطه بالإحالة إلى شخص آخر، فإن مقياس التطور فيه هو أنه اكتسب جرعة إنكار إضافية، ويحمل دوافع شك خفية أكبر، عبر إحالة الأسئلة الصعبة إلى "آخر"، هربا من عناء محاولة البحث عن إجابة أو التسليم بصحة منطق الخصم.

الثامن؛ "يمكن ما تقوله صحيح، لكنه غير واقعي". نوع آخر يعبر عن إقرار ضمني "متطور" بصحة منطق الخصم في النقاش، لكنه لا يريد إعطاءه أي أفضلية، عبر إنكار واقعيته. وقد يتسم أصحابه بنوع من حسن النية، لكنهم معاندون.

التاسع؛ "لا أعرف لكنني متمسك برأيي". النوع الشائع لدى كل أولئك الموجودين في المكان الخطأ. في الغالب يعارضون أي فكرة أو مقترح جديد، لمجرد أن يثبتوا أنهم يعرفون.

العاشر؛ "القليلون يوافقونك الرأي"، يمكن أن يكون بعض أصحاب هذا المنطق على قدر من الاطلاع ولديهم دوافع حسنة، خصوصا إذا ما أضافوا مفردة استدراك بالقول: "لكن.. الآخرين لا يوافقونك الرأي". لكن، تفوتهم حكمة التاريخ نفسها في التغيير، فالأفكار التي تسبق زمنها أو تحاول اجتيازه، دائماً ما تقابل بالإنكار في وقتها، لكنها تتحقق في أزمان أخرى تالية.

الحادي عشر؛ "تجربتي الشخصية دليل لا يدحض"، نوع يعمم التجربة الفردية لكي تصبح قانوناً عاما. وعدا عن أنها لا تصلح للتطبيق خارج المختبرات العلمية، فإن شيوعها في النقاشات السياسية والثقافية والفكرية، ينم عن تبسيط يصل إلى حد السذاجة والتسطيح.

الثاني عشر؛ "إما هذا وإما ذاك".. لا تجادل.

ما هو القاسم المشترك بين هذه الأنواع كلها؟ إنها جميعا صور متعددة للنوع الأول؛ "ما لا أعرفه ليس موجوداً". وهي في كل صورها تطرح من جديد الحاجة إلى شيء واحد: "المعرفة".

Email