الرجل العجوز ورقعة الشطرنج

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا شك أن الظاهرة الجديرة بالنظر والتي أثارت انتباه الرأي العام العربي والعالمي هو انهيار الدور الأميركي في تقرير مصير المنطقة.

حتى قبل أيام من انقلاب الأمور في الدول العربية الخمس الكبرى، كانت الولايات المتحدة الأميركية تسرح وتمرح كما تشاء أينما تشاء، وتقرر ما تشاء، وتأمر كما تشاء بجهاز التليكوماند وتغير ما تشاء وتضع ما تشاء وتبعد من تشاء وهكذا.

وهذه الهيمنة الواسعة والذي يقابله انصياعها الكامل لكافة مزاجات الطفل المدلل (إسرائيل)، كان بذلك المستوى من الجبروت والغطرسة بحيث كان يحدث أمام أعين كل المسلمين في العالم ممن كانوا يكتمون غضبهم إما خوفا من غضب الحاكم أومن اتهامهم بالإرهاب وحملهم إلى سجون أميركا الطائرة أوإلى غوانتانامو، حتى فتح الله لهم.

اليوم تهتز الأرض على بعد أمتار فقط من إسرائيل حتى وكأن القيامة قامت، وبينما مدافع الطرفين وآلاتهما الحربية تدك المدن السورية دكا دون رحمة وما قد ينتج عنه حاضرا ومستقبلا من آثار على الاستقرار الأمني والنفسي في إسرائيل نجد الولايات المتحدة تقف حائرة غير قادرة حتى على تحريك أصبع واحد، إلا أصبعها في مجلس الأمن.

ولأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية وتحديدا منذ بدء الانتفاضات العربية تتخذ بوارج الولايات المتحدة الأميركية في المحيطات والخلجان وأجهزتها الاستخباراتية المنتشرة في كل قدم مربع من خريطة العالم وقواعدها العسكرية المتأهبة على مدار الساعة، دور المتفرج على الأحداث دون أن تتفوه بكلمة أمر أوبكلمة نهي، اللهم إلا من خلال اجتماعات مجلس الأمن الذي فشل للمرة الثالثة في اتخاذ قرار بشأن الأوضاع المتدهورة في سوريا والذي لمع فيه هذه المرة دور روسيا والصين مجتمعين!

على ماذا اجتمع الروس والصينيون؟ يبدوأنهم اتفقوا في وضح النهار على انتهاز فرصة انهيار الدور الأميركي ليس فقط على مستوى الوطن العربي الذي خرج عن السيطرة، بل حتى على مستوى العالم.

فهل جاء الدور على الولايات المتحدة لتصبح ذلك الرجل العجوز بعد أن كانت أوروبا ومن قبلها الامبراطورية العثمانية؟ هذا ما يبدوللجميع من خلال مشاهدة البطء الأميركي أمام تسارع الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط ومحاولاتها اليائسة للحاق بأجندات الثوار.

ويبدوأن الربيع العربي لعب بما لا يقبل الشك دورا غير متوقع في إزاحة الستار عن خريف أميركي باهت اللون، أولنقل عن رجل هرم مصاب بأمراض الشيخوخة.

وعلى رأس هذه الأمراض المزمنة وأولها، الانهيار الاقتصادي والمالي اللذان شكلا شريان الحياة في تغذية قلب الدول الصناعية والذي هد حيل أعظم قوة في العالم. ثم جاء بعد ذلك مرض ترهل العضلات في الساعدين والقدمين في حروبها الدامية في أفغانستان والعراق التي استنزفتها ضربات طالبان هنا والمقاومة هناك.

 وعندما قرروا في وضح النهار التفاوض مع طالبان شعر العالم بأن هناك أمراً ما غير عادي يحدث في عقر دار الدولة العظمى. فالعالم لا يمكن له أن يصدق بعد عقود من عمليات غسيل المخ الذي مارسته أفلام الكاوبوي على عقولنا بأن البطل الكاوبوي المتحضر لا يمكن أن تهزمه مجموعة من الهنود الحمر المتخلفين؟ حتى كشفت حركات التحرر في الوطن العربي حيل الأفلام السينمائية.

مما قد يأسف له البعض (وسيفرح له آخرون)، أن يهبط الدور الأميركي إلى دور كومبارس في مواجهة الأحداث الكبرى، بحيث لا يتعدى دور التهديد والوعيد.

أما مناوشاتها (عن بعد) مع إيران حول برنامجها النووي فقد ظلت طوال هذه السنين لا تتعدى التصريحات الجوفاء والتهديد بالمقاطعة والحصار بهدف توجيه الأنظار عن فشلها في مكان آخر، مع أن إيران مقاطعة ومحاصرة منذ سقوط نظام الشاه دون أن ترتدع.

لوتفجرت الثورة في سوريا قبل عشر سنوات فقط، لكانت دمشق اليوم تحت رحمة نيران قصف التحالف الغربي، غير أن للشيخوخة أحكامها، بعد أن لم يبق للملك سوى بيدق واحد على رقعة الشطرنج.

Email