هل ينتصر عرفات على قاتليه؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

التحقيق الذي أجرته قناة الجزيرة ونشرته مؤخراً، حول أسباب وفاة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، أحيا بركاناً كان خامداً لفترة من الوقت سار خلالها شعور فلسطيني عام، بأن مثل هذا الملف، ينطوي على حساسية خاصة وأبعاد سياسية خطيرة، مما قد يؤخر لعقود، فتح صندوقه الأسود.

إذا كان هذا هو الاعتقاد السائد لدى الفلسطينيين، بشأن إمكانية الكشف عن ملابسات ملف اغتيال الزعيم عرفات، فإن ثمة قناعة راسخة لدى كل فلسطيني، بأن إسرائيل هي الطرف الوحيد المتهم بارتكاب جريمة اغتياله.

تحقيق الجزيرة أشار بقوة إلى مسؤولية إسرائيل، حين توصل إلى نتيجة بأن الزعيم الفلسطيني قضى بمادة البولونيوم شديدة السمية والتي لا تنتجها إلا دولة تملك مفاعلات نووية، وليس سوى إسرائيل من يملك في المنطقة مثل هذه الإمكانية.

غير أن تحقيق الجزيرة لم يستهدف فقط الإشارة إلى احتمال أن تكون إسرائيل هي من يقف وراء اغتيال الزعيم الفلسطيني، بل أنها غمزت من قناة السلطة الفلسطينية، سواء بالإشارة إلى احتمال وجود أيادي فلسطينية من بين المحيطين بعرفات ، أو بالإشارة إلى إهمال السلطة، من موقع التواطؤ. وفي الواقع، فإن الملف الذي أثار الكثير من الجدل الإعلامي والسياسي، قد شكّل فرصة جديدة، للتحريض على القيادة الفلسطينية والتشكيك بها.

المشككون في دور ما مشبوه لبعض القيادات الفلسطينية يقعون في خطأ فادح حين يخففون المسؤولية عن الفاعل الإسرائيلي، ويحولون الجدل إلى ملف الانقسام الداخلي لأسباب وأهداف تتصل بخطأ آخر كبير، وهو تقديم المصالح والبرامج الفئوية على العامة.

في الواقع فإن السلطة الفلسطينية ومؤسسة الشهيد ياسر عرفات التي يرأسها عضو اللجنة المركزية لحركة فتح وابن شقيقة عرفات، ناصر القدوة، تابعت اتصالاتها، وتحقيقاتها، بهدف التوصل إلى نتيجة واضحة، وكان آخر ما حصلوا عليه التقرير الطبي الفرنسي، الذي تسلمت سهى عرفات نسخةً منه، ولا يمكن من خلاله الوصول إلى الحقيقة الكاملة.

وإذا كانت السلطة قد تراخت نسبياً في مسألة المطالبة مبكراً، بتشكيل لجنة تحقيق دولية، على غرار لجنة التحقيق الدولية في جريمة الشهيد رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني السابق، فإن الكل يعرف بأن مثل هذه اللجنة ما كان لها ومن غير الممكن أن ترى النور بسبب الموقف الأميركي أساساً.

فإذا كان الزعيم الفلسطيني قد قضى بقرار سياسي استهدف إنهاء حياته بسبب فشل الأوساط الإسرائيلية في إنهاء دوره السياسي، فإن إسرائيل ما كان لها أن تفعل ذلك قبل أن تحصل على ضوء أخضر أميركي، وربما تعلم بذلك بعض الدول الأوروبية والعربية، غير أن ذلك، سيظل طي الكتمان إلى حين.

بعض المحللين يشككون في نوايا الجزيرة، خصوصاً وأنها اختارت توقيت النشر في مرحلة شهدت احتجاجات جماهيرية في الضفة على خلفية رفض لقاء الرئيس محمود عباس، بنائب رئيس الوزراء الإسرائيلي شاؤول موفاز في رام الله، والتي بادرت القوى الأمنية الفلسطينية إلى قمعها، وأتبعت باحتجاجات أخرى شارك فيها أنصار حماس مطالبين بإلغاء اتفاقية أوسلو.

السلطة التي أصيبت بالجرح، ما كان لها إلا ركوب الموجة، والمطالبة بتشكيل لجنة تحقيق دولية تبنتها الجامعة العربية، بالإضافة إلى تفعيل لجنة التحقيق الفلسطينية التي يرأسها عضو اللجنة المركزية لحركة فتح اللواء توفيق الطيراوي لمتابعة عملها. ملف اغتيال الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات قد يلاقي مصير الملفات الفلسطينية الأخرى، مثل ملف مكانة الدولة في الأمم المتحدة، وملف الاستيطان، وملف جدار الفصل العنصري، الذي تابعت إسرائيل بناءه بعد توقف دام لقرابة خمس سنوات.

ولكن هل يغير الموقف الأميركي الضامن لحماية إسرائيل، والمتواطئ مع كل جرائمها، من قناعات الفلسطينيين؟ بالإضافة إلى القرينة المؤكدة التي توصل إليها تحقيق الجزيرة بشأن مادة البولونيوم التي تسببت في وفاة الزعيم الفلسطيني، فإن تاريخ الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي طافح بجرائم إسرائيل في اغتيال زعماء وقادة فلسطينيين وعرب، من صدام حسين إلى خالد مشعل والشيخ أحمد ياسين، وغسان كنفاني ووديع حداد، والقادة الثلاث كمال شعت وكمال عدوان وأبو يوسف النجار، إلى أبو جهاد وصلاح خلف، وهايل عبد الحميد، والرنتيسي وصلاح شحادة، والقائمة تطول.

إن من يقوم باغتيال رئيس وزراء إسرائيل، وأحد أبطالها التاريخيين، اسحق رابين، على خلفية توقيعه اتفاقية أوسلو، يسهل عليه أن يقوم باغتيال أعدائه من الفلسطينيين. وإذا كان ثمة من ينسى أو يتناسى عن حسن أو سوء نية، البيئة التي رحل خلالها الزعيم الفلسطيني عرفات، فإننا نذكر بالحصار الصعب الذي فرضته عليه القوات الإسرائيلية في المقاطعة وسط رام الله.

وبحملة التحريض العلني التي قادها رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أريئيل شارون، الذي أعلن غير مرة أن عرفات ليس شريكاً في التسوية، وأوحى بضرورة التخلص منه بادعاء أنه عقبة في طريق السلام. إن كل القرائن المتوفرة تدل على أن إسرائيل هي المتهمة حصرياً باغتيال الزعيم التاريخي عرفات، ولذلك فإن من يشكك في هذه الحقيقة إنما يضع نفسه في موقع الشبهة بالتواطؤ مع الاحتلال، أو على الأقل تقديم خدمات مجانية لصالحه.

 

Email