الإعلام الذي تتطلبه المرحلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتطلب المرحلة الحالية التي يمر بها العديد من الدول العربية، إعلاما مسؤولا وملتزما يساير التغيرات والتطورات التي يشهدها المجتمع في مختلف المجالات وعلى كافة الأصعدة، وخاصة المشاركة السياسية وصناعة القرار ومبدأ التداول على السلطة.

تثار من حين لآخر حوارات ساخنة حول المنظومة الإعلامية ودورها في المجتمع، وما تستطيع أن تفعله من بناء وتوعية ومساهمة في التغيير والتشييد والتنمية الشاملة، وكشف الحقائق والتجاوزات والأمراض الاجتماعية، والأخطاء المختلفة التي تشل العمل الهادف والناجح.

وفي المقابل، قد تكون المنظومة الإعلامية عالة على المجتمع، وهذا من خلال نشر ثقافة التلميع والتبسيط والتهميش، والتركيز على القشور وإهمال الجوهر. هذا النوع من الصحافة هو النوع السلبي، الذي لا يغيّر الأمور ولا يساهم في صناعة الأحداث، وعادة ما تنكشف أموره عندما تتأزم الأوضاع وتسوء الأحوال.

إعلام التلميع والتملق يكون همه الوحيد هو إرضاء المسؤول بكل الطرق والوسائل، وتكريس السلطة القائمة والمحافظة على الوضع الراهن. والرسالة والأجندة في هذه الحالة، تكون شيئا ويكون الواقع شيئا آخر. وبدلا من أن تكون المنظومة الإعلامية سلطة رابعة تراقب السلطات الأخرى.

وتكشف عن هموم ومشاكل الشارع وتطرح القضايا المصيرية للنقاش والحوار، نجدها تعمل على تلميع السلطة. الضمير هنا غائب تماما، حيث يقوم الإعلام بعملية تزييف وتضليل وتشويه منتظمة مستمرة وبطريقة عفوية، الأمر الذي لا يضيف شيئا للمجتمع، بل يسهم في نشر ثقافة التزييف والتضليل والنفاق الاجتماعي.

وهكذا يصبح الإعلام بعيدا كل البعد عن خدمة المجتمع وكشف الحقيقة، والمشاركة في صناعة القرار والأحداث وتغيير الواقع، فصحافة التلميع تفرز رأيا عاما مزيفا مضللا. وقد يفاجأ هذا الرأي العام نفسه، في ظل هذه النوع من الإعلام، بالأزمات وبالواقع المرير الذي يعيشه، حيث التباين الكبير بين الواقع وبين ما تبثه وسائل الإعلام. وهنا يبدأ التفكك وانهيار المصداقية بين الرأي العام والوسيلة الإعلامية، حيث انه آجلا أو عاجلا يكتشف الرأي العام أن ما يصله من رسائل إعلامية بعيدة كل البعد عن الواقع.

هل من رسالة يؤديها الصحافي في المجتمع؟ هل من مبادئ يؤمن بها ويعمل جاهدا على تطبيقها؟ هل من حقيقة يبحث عنها ويتعب من أجلها ويخاطر ليلا نهارا لإيصالها للقارئ الذي يعتبر رأس ماله؟ هل الهدف هو كشف أمراض المجتمع وتناقضاته وتجاوزاته؟ أم الهدف هو التملق والتلميع والتقارير المزخرفة والملونة والتي تهدف إلى إرضاء المسؤول باستعمال كل الطرق وكل الوسائل؟

هذه التساؤلات تظهر تافهة لا محل لها من الإعراب، في قاموس الصحافة المسؤولة والفاعلة وقاموس السلطة الرابعة، لكن في معظم مجتمعاتنا العربية ما زالت تُطرح، ويجب علينا أن نطرحها باستمرار وبجدية ولأكثر من سبب. أولها أن معظم المؤسسات الإعلامية في الوطن العربي، ما زالت لم ترق إلى مستوى المؤسسة الإعلامية الاجتماعية المسؤولة والمدركة للدور التي يجب أن تلعبه في المجتمع.

والدليل على ذلك مئات الفضائيات العربية، التي تعتبر دكاكين لبيع الإعلانات والرسائل القصيرة، وتحقيق الأرباح بأي وسيلة وطريقة. أما السبب الثاني فيتمثل في الموضة الجديدة التي ظهرت في بعض الفضائيات العربية، التي ابتكرت نوعا جديدا من الإعلام وهو إعلام "التمظهر" و"الشوبيز"، والبحث عن الجمهور بكل الطرق والوسائل.

إعلام التملق والتلميع، يعمل على تسطيح التفكير والنظر إلى القضايا الجوهرية في المجتمع، ويهدف إلى تغليط الرأي العام والتضليل، وكل ما يتناقض مع أخلاقيات المهنة الشريفة والعمل النزيه. المهم هنا هو الحماس والتعبئة والتجنيد، وليس التحليل واستقصاء الواقع والبحث عن الحقيقة واحترام الرأي الآخر والنقاش السليم والبناء. اما في الاعلام الهادف فالهدف هنا ليس إرضاء الحاكم أو صاحب السلطة السياسية أو المالية، وإنما البحث عن الحقيقة واستقصاء الواقع من أجل الصالح العام.

إعلام المرحلة والإعلام الذي يحتاجه الربيع العربي وتحتاجه المجتمعات العربية قاطبة، هو الإعلام الفعال الذي يخاطر ويغامر ويجازف، من أجل إنصاف المسكين المهمش الضعيف المهضومة حقوقه. الإعلام الذي تتطلبه مرحلة الثورات الشعبية وإرادة الفئات المحرومة.

هو ذلك الإعلام الذي يقف أمام سلطة المال والسياسة، التي تستعمل كل السبل والوسائل والطرق التي تخرج عن الأعراف والقوانين والأخلاق، لتحقيق أهدافها وأطماعها ومصالحها على حساب الفئات العريضة من المجتمع. الإعلام العربي في عهد الربيع العربي، بحاجة إلى صحافة فاعلة، صحافة تقف إلى جانب الضعيف تنصفه وتحميه من جبروت النفوذ المالي والسياسي.

مع الأسف الشديد، ورغم مرور عقود من الزمن على استقلال الدول العربية ومن الممارسة الإعلامية فيها، ما زلنا في عهد صحافة التلميع، وإذا خرجنا عنها من حين لآخر، فسنجد أنفسنا أمام صحافة "التمظهر" والفلكلور و"الشوبيز" وصحافة التسطيح والتهميش والتبسيط، صحافة تخلق ذوقا هابطا لا يفيد في شيء، بل يساهم في ذوبان شبابنا في الآخر.

لقد أصبحت الصحافة القوية الفاعلة في عصرنا الراهن، هي بارومتر الديمقراطية والتقدم والازدهار، وهي صانعة الرأي العام القوي والفعال، الذي يطيح بالمستبدين والطغاة، وأصبحت سلطة رابعة تراقب السلطات الأخرى وتحاصرها، وتكشف عن تجاوزاتها للرأي العام.

النظام الإعلامي العربي في حاجة ماسة إلى التأقلم مع ما حدث ويحدث في العديد من الدول العربية. ليس هذا فحسب، بل نلاحظ كذلك أن المواطن العربي تغير، وأن الشبكات الاجتماعية والثورة المعلوماتية أفرزت معطيات جديدة يتوجب أخذها بعين الاعتبار.

فالمواطن العربي أصبح عضوا فاعلا في عملية التواصل الاجتماعي، وصناعة الرسالة وتقاسمها مع مئات الآلاف من المواطنين داخل حدود بلده وخارجها. فعصر الربيع العربي لا يتقبل احتكار المعلومة، ولا التضليل والتزييف، ولا فبركة الواقع. كما أنه لا يقبل بالرقابة والحذف والإعلام العمودي.

التحديات كبيرة وضخمة، والتغير في الميدان لا يكتب له النجاح إذا لم تتغير الذهنيات وطريقة التفكير والتعامل مع الآخر. والمؤسسة المرشحة بامتياز للقيام بعملية التغيير الفكري والذهني وتغيير السلوكيات والعادات السيئة والخاطئة قبل التغيير المادي، هي المؤسسة الإعلامية إذا تحلت بالمسؤولية والالتزام والمهنية، وإذا تبنت منطق الحوار والنقاش من أجل خلق سوق حرة للأفكار وإفراز مجتمع مدني قوي وفاعل..

 

Email