مرسي والإسلاميون والتاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت جملة اعتراضية ليست في النص، لكنها أثارت تساؤلات واستياء تيار الناصريين في مصر، ومثلهم عرب كثر لا تزال تفصل بينهم وبين الرئيس مرسي والإخوان المسلمين عموماً مسافة من الشكوك والريبة.

وحسب الدكتور مغازي البدراوي، فإن مرسي ربما "لم يتعمد إغضاب هذا التيار السياسي الكبير" لكن "الخطأ وقع والصدمة حدثت.. ليصبح هذا التيار أول خصوم الرئيس المصري الجديد على الساحة المصرية" (مغازي البدراوي: عودة الصراع بين الناصرية والإخوان ـ البيان، 6 يوليو 2012).

أميل لرأي البدراوي، خصوصا وأن رسالة مرسي الأساسية التي حرص على إيصالها للمصريين، هي سعيه "لإجماع وطني". ومن وجهة نظري فهو من الذكاء والحصافة أن لا يبدأ باستعداء أي تيار من المصريين، في هذه المرحلة على الأقل. لكن تلك "الزلة الفرويدية" قد تفصح عن تقييم لا يزال الإخوان المسلمون المصريون وتيارات الإسلاميين عموما، يحتفظون به لحقبة الستينات.

وتحديدا عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. هناك في أعماق ذاكرتهم، ترقد الخصومة التي بلغت شوطا بعيدا بينهم وبين الرئيس الراحل. لست بصدد مناقشة ما صدر عن الرئيس مرسي، بقدر ما دفعتني الواقعة إلى مجال آخر هو العلاقة مع التاريخ؛ علاقة الرئيس نفسه وعلاقة الإخوان وعموم الإسلاميين بالتاريخ.

فالحكم على حقبة من التاريخ المصري الحديث من منظار العلاقة بين تنظيم الإخوان والرئيس عبد الناصر، سيكون خطأ فادحاً. فمظلمة الإخوان مع ذلك العهد، لن تشكل منطلقاً للحكم ما لم توضع في سياقها الأشمل. فالإخوان لم يكونوا الوحيدين الذين تعرضوا للسجن والاضطهاد في تلك الحقبة، بل اليساريون أيضا.

وإذا ما أضفنا إلى هؤلاء فئة من البرجوازية المصرية التي تعرضت ممتلكاتها للتأميم، فإن التقييم الموضوعي يقضي حتما بأن الإخوان المسلمين لم يكونوا ضحية وحيدة، بل إن الحكم الأفضل على ذلك سيأتي حتما عند وضع تلك الأحداث في سياق إخفاق تجربة الرئيس عبد الناصر في الديمقراطية.

لكن سيكون خطأ جسيما أيضا الحكم على عهد بأكمله، وبعيدا عن السياق الزمني الذي وجد فيه، من منطلق إخفاق في هذا الجانب فحسب. فالعهد الناصري بتبنيه سياسات تنتصر للفقراء، دشن عملية هندسة اجتماعية واسعة في المجتمع المصري، عبر مجانية التعليم الذي أتاح لملايين المصريين فرص التعليم الجامعي، وتقديم العلاج المجاني، والإصلاح الزراعي، في سياق سياسات ترتكز على محور رئيسي هو تحقيق العدالة الاجتماعية.

وفي الميدان الاقتصادي، فإن الاتجاه نحو التصنيع وبناء قاعدة إنتاجية صناعية على أساس الاعتماد على النفس ـ رغم كل الهجاء الذي تعرضت له ـ هو نفس المسار الذي سارت فيه دول مثل الهند وكوريا الجنوبية، على سبيل المثال لا الحصر.

أما الفارق فهو جلي وواضح اليوم، ففي الوقت الذي واصل فيه الهنود والكوريون الجنوبيون ذلك المسار المضني من التضحيات، تم النكوص عن تلك السياسات في مصر منذ السبعينات، والنتيجة واضحة اليوم لا تحتاج إلى شروحات إضافية.

أما استقلالية القرار المصري، فمن الممكن النظر إلى الانعطافة التي قام بها عبد الناصر في صفقة الأسلحة التشيكية عام 1955، على أنها الخطوة الأولى في مسار طويل، فرض عبد الناصر فيه استقلالية مصر بشكل لا مجال للشك فيه.

لقد حارب الغربيون وإسرائيل، عبد الناصر بضراوة لأنهم لم يشاؤوا تعميم النموذج الذي كان يمثله ويعمل من أجله، فقد كان نجاحه خطرا عليهم لأنه سيكون قابلاً للتعميم في مختلف أنحاء العالم. إنها نفس الحرب التي تعرض لها رئيس وزراء الهند الأسبق جواهر لال نهرو ورؤاه المبكرة في الاعتماد على الذات، لكن خلفاء نهرو على العكس من خلفاء عبد الناصر.

واصلوا طريقه والثمار التي جنتها الهند في السنوات القليلة الماضية في النمو الاقتصادي، لم تكن إلا وليدة تلك السياسات والمؤسسات التي أنشأها نهرو في الخمسينات، وأثارت سخرية من حوله وهجاء الغرب. ونظروا إلى كوريا الجنوبية، وتذكروا أن الناتج القومي المصري في الستينات كان مساويا للناتج القومي الكوري الجنوبي، أما اليوم فالفوارق أكبر من أن تحصى.

وقبل عبد الناصر، لربما يتعين على الرئيس مرسي ومخططيه الاقتصاديين، استذكار مصري ملهم آخر لا علاقة له بعبد الناصر، هو ذلك الاقتصادي الفذ طلعت حرب. ليتذكر كثيرون ما أنجزه طلعت حرب، وما كان يسعى إليه، وليتذكروا العبرة الأساسية: "الاعتماد على الذات".

أما الرئيس الراحل أنور السادات، فلا يمكن النظر إلى عهده من منظار علاقته المتقلبة بالإسلاميين فحسب، وهو ليس الرئيس المصري الذي وقع معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل فحسب. فالسادات مثله مثل زعماء كثر، مر بأكثر من مرحلة في سنوات حكمه، ومن المؤكد أن سجله ليس من لون واحد.

فهو أيضا القائد الذي خطط جيدا لحرب أكتوبر، ومهد لها مع خيرة قادة الجيش المصري بعملية خداع استراتيجي محكمة، جعلت الإسرائيليين لا يصدقون أن المصريين بصدد الحرب، حتى عندما شاهد الإسرائيليون الجنود المصريين يكشفون أغطية المدافع على طول جبهة قناة السويس.

سيرتكب الإخوان خطأ كبيراً إذا أخطأوا في فهم التاريخ المصري، وقرأوه فقط من زاوية علاقتهم بمحطاته المهمة أو الشخوص التي أسهمت في صنعه. إنه المطب الذي يقع فيه غالب الأحزاب الكبرى، خصوصا الأيديولوجية التي تملك في العادة مروياتها التاريخية الخاصة. انهم بحاجة، مثل غيرهم أيضا، لما يسميه البعض "التصالح مع التاريخ"، وهو لن يعني بأي حال سوى أن على أول رئيس مدني منتخب في مصر، أن يكون قارئاً جيداً للتاريخ.

لا يتعلق الأمر بالرؤساء بقدر ما يتعلق بفهم التاريخ نفسه، وعندما يوضع أسلاف مرسي في سياق نظرة أكثر شمولا للتاريخ المصري، سيكون الحكم أقل انحيازا بالتأكيد وأكثر موضوعية. وما ينطبق على الرؤساء ينطبق على تاريخ مصري طويل ومتنوع، لا يمكن اختزاله في ثنائية العلاقة بين تنظيم الإخوان والرؤساء المتعاقبين.

ومواصلة البناء الذي أعلنه الرئيس مرسي، لن تعني في مطلق الأحوال سوى مواصلة البناء على مكاسب أسلافه وتفادي إخفاقاتهم. وسواء تعلق الأمر بمجانية التعليم وتحقيق العدالة الاجتماعية أو تحفيز النمو الاقتصادي، فإن هذا يتطلب تفادي إحداث قطيعة مع التاريخ أو اختزاله.

 

Email