مصر والتحدي الاقتصادي الأعظم

ت + ت - الحجم الطبيعي

لرئيس مصر الجديد جدول أعمال لمعالجة أدواء الاقتصاد المصري العليل، يتكون من مراحل زمنية ابتداء من مرحلة أولى فورية لمجابهة المسائل العاجلة، كأزمة الخبز والوقود والمواصلات، مثلا. لكن ليس واضحا تماما ما إذا كان للدكتور محمد مرسي دليل نظري استرشادي، لمقاربة الحالة العامة للاقتصاد من منظور الواقع الاقتصادي الماثل.

على مدى عهد الرئيس السابق حسني مبارك البالغ أكثر من ثلاثين عاما ــ ومن قبله عهد الرئيس السادات ــ بقي الاقتصاد الوطني المصري محكوما بنهج «اقتصاد السوق الحر». وبالطبع لا يزال الوضع كما هو حتى الآن، وإلى أن تمتد إليه يد الثورة في العهد الديمقراطي الجديد.

نقول ابتداء إن على د. مرسي أن ينظر بعين براغماتية إلى ما قبل عهد مبارك وعهد السادات، لكي يستخلص ما يمكن استخلاصه في حالة الاقتصاد الوطني في زمن جمال عبدالناصر، خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن المنصرم.

لقد كان الاقتصاد الناصري اقتصادا متيناً، يلبي حاجات الفئات الطبقية العريضة من ذوي الدخل المحدود، وتحديداً الطبقة المتوسطة والطبقة الفقيرة، بعد أن أدى تطبيق سياسات النظام التحررية إلى تحرير هذه الفئات من الطبقة الاستغلالية.

ورغم المؤامرات الداخلية والتدابير العدوانية التي كانت تواجه النظام الناصري على مدى عمره البالغ 18 عاما، احتفظ الاقتصاد الوطني بمتانته.

لماذا؟ هذا هو التساؤل الذي ينبغي على رئيس مصر الجديد أن يطرحه على نفسه. والإجابة معلومة، وهي أن عبدالناصر أخذ منذ الوهلة الأولى بنظام سيطرة الدولة المركزية على حركة الاقتصاد الوطني، بما يمنع نشوء شريحة طبقية استغلالية تزداد غنى على غنى، بينما تزداد الفئات الطبقية الشعبية فقرا على فقر.

وهكذا وللمرة الأولى في التاريخ الاقتصادي المصري، أنشئ قطاع عام يتكون من مؤسسات وشركات مفتاحية في شتى المجالات الإنتاجية والخدمية الاستراتيجية، وفقا لتخطيط مركزي بإشراف الدولة. وهكذا أيضاً عرفت الفئات الطبقية الشعبية استقرارا اقتصاديا واجتماعيا لم يعرف له مثيل في مصر، سواء من قبل أو من بعد.

ينبثق عن هذا تساؤل ذو صلة عضوية: لماذا تبدل الحال وانقلب رأسا على عقب في عهد مبارك ذي الثلاثة عقود ومن قبله عهد السادات؟

هنا أيضاً يستلزم الأمر وقفة من الرئيس مرسي. لقد أخذ نظام مبارك بنهج اقتصاد السوق الحر، وفي هذا السياق لا نريد عقد مقارنة أيديولوجية تنظيرية بين مبادئ النظام الرأسمال ومبادئ النظام الاشتراكي وما ينتج عن ذلك عادة من جدل بيزنطي عقيم، وإنما نحن بصدد تقييم تجربة واقعية جرت في زمان ومكان معينين. ومنعا لنشوء مثل هذا الجدل العقيم، فلنقل إن ما أخذ به نظام مبارك هو النسخة الأسوأ لنهج اقتصاد السوق الحر.

ما شهده نظام مبارك هو تقليص دور الدولة المركزي في حركة الاقتصاد الوطني، بما في ذلك تفكيك القطاع العام ومن ثم تدميره، كتمهيد لنقل السيطرة الاقتصادية الشاملة من الدولة إلى حفنة من رجال الأعمال، من ذوي الصفة التعاملية مع كبار رموز النظام الحاكم.

ومن المفارقات أن معدل نمو الاقتصاد في عهد مبارك لم يكن بالسالب، فمصر ليست بلدا فقيرا من حيث الموارد. وفي بعض الأحيان كانت نسبة النمو تبلغ 7%، وهو معدل متميز. لكن عائد الثروات ــ وخاصة عائد الصادرات بالنقد الأجنبي ــ لم يكن يصب في خزانة الدولة، بل كان يذهب جزء كبير منه إلى الحسابات الخارجية الشخصية لكبار رجال الأعمال المتحالفين مع كبار رجال السلطة وعائلاتهم.. علما بأن جزءا كبيرا آخر يخصص للسداد السنوي للديون الخارجية.

التحدي الأعظم الذي يواجه الرئاسة المصرية الجديدة المنتخبة، هو إذن إزالة شاملة للبنية الاقتصادية القائمة على نهج نظام اقتصاد السوق. ونثق في أن الرئيس مرسي يدرك أنه منذ الوهلة الاولى للتعامل الحازم مع هذا التحدي الضخم والخطير، سيجد نفسه في مواجهة عصابة رجال أعمال مهيمنة وعصابة كبار رموز نظام مبارك.

وسيجد أيضاً أن للقضية بعدا خارجيا، يتمثل في إدارة صندوق النقد الدولي، الذراع المالية الدولية للولايات المتحدة. فالصندوق هو الجهة التي ابتدرت أصلا تطبيق منهج اقتصاد السوق في مصر، تحت اسم «تحرير الاقتصاد المصري».

 

Email