التواصل عن طريق إيقاف الاتصال

ت + ت - الحجم الطبيعي

في كل عام يجمع مهرجان كان الدولي للإبداع تحت آفاقه، الألوف من المفكرين التجديديين والعاملين في الإعلان والإعلام من أرجاء العالم كافة، للنقاش حول الجديد والمقبل في العالم الرقمي الجديد الشجاع.

تحدثت في العام الماضي عن واحد من أحدث التطورات الرقمية المثيرة، والمتمثل في الحقيقة القائلة إن الإنترنت قد تجاوزت الآن مرحلة مراهقتها، ونمت لتصل إلى مرتبة تداخلت معها حياتنا الرقمية والواقعية، حيث تنعكس السمات التي نهتم بها أعظم الاهتمام في حياتنا الواقعية، بصورة متزايدة على مرآة تجربتنا الرقمية، وحيث من بين كل عمليات البحث العشوائية التي حددت السنوات الأولى من عمر الإنترنت، برز شيء جديد حقا وهو البحث عن معنى أكبر.

في دورة العام الحالي من المهرجان، وقفت مجددا أمام منصة الخطابة، وهذه المرة مع روي سيكوف رئيس التحرير المؤسس لـ"هافينغتون بوست" ورئيس شبكتنا الجديدة التي نعتزم إطلاقها تحت عنوان "هافبوست لايف"، وتمثل ما دار في ذهني هذا العام، في السرعة التي تنطلق بها الإنترنت في هذا الاتجاه.

حيث إن عالما حافلا بيننا أكثر مما ينبغي، وخيارات أكثر وإمكانات أكثر مما يجب، ووقتا أقل كثيرا مما ينبغي، تجبرنا على أن نقرر ما الذي نقدره حقا. ويدرك مزيد من الناس والشركات المجددة، أننا لدينا بالفعل حياة بعيدا عن أجهزتنا المتطورة، وقد كان من أحدث السمات إثارة للاهتمام في مؤتمر المطورين على امتداد العالم الذي تبنته شركة آبل، برنامج "دونت دستيرب"، وهو أحد برامج الآيفون الجديدة المخصصة لإبعادك عن جهاز الآيفون الخاص بك تماما.

ويعد هذا واحدا فقط من عدد متزايد من التطبيقات المتواصلة، التي تراكم فوائد الانقطاع عن الأجهزة وإعادة شحن طاقة الإنسان، وهو مصدر للحكمة أدركته عقول كثيرة من أكثر عقولنا إبداعا. وقد اعتاد بيل غيتس، الذي أدرك أن الأفكار الجيدة تأتي إلى الذهن عندما يتم إبعاد مصادر التشتت عنه، أخذ ما يسميه بـ"أسابيع التفكير".

والمقصود بذلك الابتعاد لمدة أسبوع مرة أو مرتين في العام، في كوخ منعزل للقراءة والتفكير. وقد صرح ستيف جوبز لوالتر جاكسون، بقوله إن تأملات الزن كانت مهمة بالنسبة له لكي يستطيع تهدئة ذهنه القلق، والإصغاء، على نحو ما عبر، لمزيد من الأشياء المراوغة، وأنه "عند ذلك يبدأ حدسك في الازدهار". وقد عبر الروائي الأميركي الراحل جون شتاينبيك عن هذا الأمر بالقول: "إن المشكلة الصعبة في الليل تحل في الصباح بعد أن تكون لجنة النوم قد اشتغلت عليها".

ونحن نعرف من خلال العودة إلى رحاب التاريخ، أن الكثير من الاكتشافات العظمى تحققت بلحظات من الاسترخاء، فأرخميدس، على سبيل المثال، توصل إلى قاعدته الشهيرة أثناء وجوده في الحمام، وبلغ به الانفعال إلى الحد الذي اندفع معه إلى خارج الحمام وهو عارٍ صائحا: "وجدتها! وجدتها!".

وهو الحدث الذي كان بالطبع سيتم بثه على الهواء فورا، أو على تويتر لو أنه حدث اليوم. وتفيد الأسطورة أيضا، بأن إسحق نيوتن كان جالسا في إحدى الحدائق تحت شجرة تفاح عندما توصل إلى اكتشافه عن الجاذبية، بل إن أوراق "بوست إت" قد اخترعت عندما كان آرثر فراي جالسا في الكنيسة، تراوده أحلام يقظة عن زميل له كان قد ابتكر لاصقا جديدا أضعف من أن يلصق أي شيء، باستثناء شرائح صغيرة من الورق.

وتمتد حكمة الانفصال عن الأجهزة، فالأمر يتجاوز بكثير عوالم أنشطة الأعمال والفنون والعلوم، حيث إن الرياضيين يتصدرون الصفوف على نحو متزايد، في اللجوء إلى النوم باعتباره المنشط الحقيقي الباعث على أداء أفضل.

وقد نصح الدكتور تشارلز زيسلر، مدير قسم طب النوم في كلية الطب بجامعة هارفرد، فرق "إن بي إيه" في ما يتعلق بهذا الموضوع، الأمر الذي أدى إلى ثقافة قيلولة متزايدة لدى شخصيات بارزة، مثل لوبرون جيمس وكوبي برايانت. وقالت شيري ماه الباحثة في جامعة ستانفورد المتخصصة في النوم.

والتي قدمت استشارات للرياضيين الأولمبيين ورياضيي "إن بي إيه" و"إن إتش إل"، إن الرياضيين أدركوا أخيرا أهمية إعطاء أولوية للنوم، جنبا إلى جنب مع التدريب الرياضي والتغذية المناسبة. ويقدم برنامج "سبارك" الخاص بشركة نايكي، والمكرس لتحسين أداء الرياضيين، المساعدة في إبراز أهمية النوم عندما يتعلق الأمر بالتدريب والتركيز والانتعاش. وهكذا فإن أي برنامج للإنجاز الرياضي، ينبغي أن يشمل الحصول على القيلولة بشكل منتظم، بعيدا عن ساحات التنفس.

إن الحاجة إلى إرادة الاتصال بأنفسنا من خلال الانفصال عن أجهزتنا، ليست بالأمر الهين في عالم نشعر فيه بالحاجة الشديدة إلى حلول إبداعية لأزماتنا المتعددة. وهكذا فإنه سواء كان الأمر عن طريق تطبيقات مثل "دونت دستيرب"، أو "ثنك ويك"، أو قيلولة تسبق المباراة، فإن من حقنا على أنفسنا ومن حق كل منا على الآخر، أن نجدد علاقتنا التي تعرضت للاضطراب مع الحياة، بعيدا عن شاشاتنا، وأن نستعين بحكمتنا وإبداعنا، وهي السمات الخالدة التي يساورني الشعور بأنها ستواصل حضورها، أيا كان الشكل الذي تتغير به حياتنا الرقمية.

 

Email