السودان والغلاء.. ما وراء الأزمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

من ظواهر الأمور، يبدو أن الغلاء المتصاعد في السودان مرده إلى تصاعد قيمة الدولار الأميركي منسوبا إلى الجنيه السوداني، لكن العكس هو الصحيح. فبينما يبقى الدولار ثابتاً، فإن القوة الشرائية للجنيه هي التي تتناقص منسوبا إلى الدولار. بالتالي فإن السؤال الذي ينبغي أن يطرح هو: لماذا تتدهور القوة الشرائية للجنيه السوداني في السوق الاستهلاكية؟

 المستهلك في السودان يشتري سلعة ما بسعر معين.. وبعد أسبوع أو أسابيع يضطر إلى دفع المزيد من الجنيهات للحصول على نفس السلعة، لأنه في هذه الأثناء قد نقصت قيمة الجنيه منسوبا إلى عملة الدولار العالمية.

لكن التساؤل لا يتوقف عند هذا الحد، وإذن فإن السؤال التالي هو: لماذا تتناقص قيمة الجنيه أصلا؟ لأن الحكومة لا يتوفر لديها على الدوام القدر الكافي من أرصدة النقد الأجنبي بالدولار والعملات الصعبة الأخرى، ليشكل «غطاء» لما تطبعه الحكومة من جنيهات ورقية.

لنخرج من التنظير إلى واقع الحال، ليكون السؤال الأساسي الذي ينبغي أن يطرح هو: لماذا تعاني الحكومة في السودان من شح الأرصدة بالنقد الأجنبي مما لا يوفر الغطاء الكافي للعملة المحلية، فتتدهور بالتالي القوة الشرائية للجنيه وبالتالي يتصاعد غلاء الأسعار في السوق الاستهلاكية؟ هناك أربعة عوامل رئيسة هي:

أولا؛ التزامات الوفاء بالسداد السنوي للديون الخارجية. ثانيا؛ الإنفاق العسكري على حربين مفروضتين على السودان في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق. ثالثا؛ فقدان الحكومة نصيبها من عائد صادرات نفط جنوب السودان منذ انفصال الجنوب في يوليو الماضي. رابعا؛ سوء التصرف في ما يتبقى من أرصدة نقدية، وتدخل في هذا الباب ممارسات فساد متواترة.

من الواضح أنه ليس بوسع الحكومة أن تتحكم في العاملين الأولين، فالاستمرار في ما يسمى اصطلاحا بخدمة الديون، التزام دولي لا فكاك منه. وتورط السودان في المديونية الدولية، نشأ منذ عهد الرئيس نميري خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي. وازدادت المديونية أضعافا مضاعفة بسبب الحرب التي أشعلتها «الحركة الشعبية» الجنوبية بقيادة جون قرنق، وامتدت لنحو 22 عاما ابتداء من عام 1983.

لكن الاستنزاف المالي والاقتصادي للسودان لم يتوقف بعد انفصال الجنوب، فقد ابتدرت حكومة الجمهورية الجنوبية المستقلة بقيادة «الحركة الشعبية» فور الانفصال، حربين محليتين في إقليمي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، مما اضطر الحكومة في جمهورية السودان الشمالي إلى رفع الإنفاق العسكري، بما في ذلك بالطبع الإنفاق من أرصدة النقد الأجنبي.

على صلة بذلك تأتي مسألة الإنتاج النفطي في جمهورية الجنوب. لقد نصت اتفاقية السلام الموقعة في عام 2005، على تخصيص 50% من النفط المنتج في الجنوب، للحكومة المركزية للسودان الموحد على مدى ست سنوات متصلة، هي عمر المرحلة الانتقالية التي عند نهايتها يعقد استفتاء عام في الجنوب ليمارس الشعب الجنوبي حقه في تقرير مصيره، بين خياري الوحدة والانفصال.

وبالطبع فإنه في حالة الانفصال وقيام الدولة الجنوبية المستقلة، يتوقف الإمداد النفطي الجنوبي للجمهورية الشمالية ــ جمهورية السودان، وهذا ما جرى بالفعل منذ يوليو 2011. هكذا وعلى نحو فجائي، فقدت جمهورية السودان ما يعادل ثلث دخلها بالنقد الأجنبي. هنا نتوقف لنتساءل: هل كان ذلك مفاجأة فعلا لجمهورية السودان؟

قطعاً، لا. فمنذ اتفاقية نيفاشا في عام 2005 كان حزب «المؤتمر الوطني» يعلم علم اليقين المآل الذي ينتظره، لكنه كان يعلم أيضا أن أمامه ست سنوات كاملة لتسوية الوضع الاقتصادي، تخطيطا وتدبيراً وتنفيذا، قبل أن تحل نهاية هذه المرحلة.

بدلا من ذلك، درجت الحكومة على تبديد ما يتوفر لديها من رصيد بالنقد الأجنبي، على إنفاق تفاخري تترافق معه ممارسات فساد.

الآن، على سبيل كيفية معالجة الأزمة، عمدت الحكومة إلى إجراءات كاسحة لتقليص أعداد المناصب الدستورية على المستويين المركزي والولائي، لكنها في الوقت نفسه اتخذت إجراءات أخرى ذات طبيعة سالبة. في مقدمة هذه الإجراءات إلغاء الدعم السعري الحكومي على المحروقات، وزيادة الضرائب على فئة صغار التجار.

فإلغاء الدعم على المحروقات لا يؤدي إلى تصاعد أسعارها فحسب، بل تمتد تداعيات هذا التصاعد إلى قطاعات إنتاجية وخدمية أخرى. أما زيادة الضرائب على صغار التجار، فإنها تضطرهم لتحويل العبء الضرائبي إلى جمهور المستهلكين، عن طريق رفع أسعار السلع فيزداد الغلاء اشتعالا.

 

Email