غارودي.. رحل الرجل وتبقى الحقيقة

ت + ت - الحجم الطبيعي

رحل المفكر والفيلسوف الفرنسي المسلم رجاء غارودي، بعد عمر ناهز 98 عاما كان حافلا بتطورات فكرية وأيديولوجية كثيرة، ميزتها محطات ريئيسية هامة، أهمها اعتناقه الإسلام سنة 1982، ومواقفه الجريئة ضد الصهيونية وآليات التضليل والتشوية والتزييف والأساطير المختلفة، التي تفنن ويتفنن الكيان الصهيوني في استخدامها في تضليل الرأي العام وإخفاء جرائمه وعنصريته وهمجيته.

ألف الفيلسوف غارودي كتابا بعنوان "الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل"، حلل من خلاله بالأدلة والبراهين والبحث والاستصاء، التناقضات التي تتميز بها دولة إسرائيل والحركة الصهيونية العالمية. ومن بين المواضيع التي تطرق إليها الكتاب، موضوع المحرقة "الهولوكوست"، حيث أكد من خلال البحث والاستقصاء أن الموضوع استغل بأكاذيب وتضليل، من أجل اغتصاب أرض الغير وتشريد شعب بكامله.

كما تطرق إلى اليهود الذين تعاملوا وساعدوا النازية أثناء الحرب العامية الثانية. ومن خلال كتابه، استطاع غارودي بكل شجاعة وجرأة، أن يعري الأساطير الكاذبة التي استعملها الصهاينة لبناء دولة من العدم.

نشط اللوبي الصهيوني في الأوساط السياسية والبرلمانية الفرنسية، واستغل نفوذه وشخصياته، سواء في البرلمان أو في حكومة لوران فابيوس، لتمرير قانون يعاقب بالسجن لمدة سنة وغرامة تقدر بـ50 ألف دولار.

كل من يشكك في الهولوكوست والمآسي التي تعرض لها اليهود في المعسكرات النازية. وبكل بساطة جاء قانون "فابيوس- جيسو" لستر ودفن الأكاذيب وأساطير الصهيونية، ولحماية الخرافات اليهودية ومنحها حصانة لم تنعم بها من قبل أي حركة سياسية أو أيديولوجية.

وهنا نلاحظ تناقضات القرن العشرين، حيث من حق سلمان رشدي وتسليمة نسرين قذف وشتم وتشويه الإسلام، بل من حق هؤلاء التمجيد والتبجيل والجوائز والاستقبالات الرسمية وغير ذلك. أما بالنسبة لرجاء غارودي، المفكر المعروف والمعتدل في آرائه وأطروحاته وكتاباته، فجزاؤه المحاكمة والإرهاب الفكري والنفسي والمعنوي. فهذا القانون كما وصفه المحامي الشهير جاك فرغس، هو قانون فاشي وعنصري ووصمة عار على المشرع الفرنسي والعدالة الفرنسية.

وهذا ينسجم مع ما تمخضت عنه قرارات حكماء بني صهيون في المؤتمر الصهيوني الأول في "بال" بسويسرا، حيث خصص البند الثاني عشر منها للكيفية التي ستتم بموجبها السيطرة على وسائل الإعلام ومختلف قنوات الاتصال الجماهيري، بهدف التحكم في الرأي العام العالمي، وخاصة الأميركي والأوروبي.

والعمل على تغيير الصورة السلبية لليهودي، إلى صورة إيجابية يظهر فيها إنسانا ذكيا، مثابرا، مخترعا، عالما، متقدما، وإنسانيا.. فقد نص البروتوكول الثاني عشر من برتوكولات حكماء بني صهيون على الآتي:

إن القنوات التي يجد فيها الفكر الإنساني ترجمانا له، يجب أن تكون خالصة في أيدينا.

إن أي نوع من أنواع النشر أو الطباعة يجب أن يكون تحت سيطرتنا.

يجب ألا يكون لأعدائنا وسائل صحفية يعبرون فيها عن آرائهم، وإذا وجدت فلا بد من التضييق عليها بجميع الوسائل لكي نمنعها من مهاجمتنا.

الأدب والصحافة هما اعظم قوتين إعلاميتين وتعليميتين خطيرتين، ويجب أن تكونا تحت سيطرتنا.

لن يصل طرف من خبر إلى المجتمع من غير أن يمر علينا، فالأخبار تتسلمها وكالات قليلة تتركز فيها الأخبار من كل أنحاء العالم، وحينما نسيطر عليها لن تنشر إلا ما نختاره نحن من هذه الأخبار.

لا بد لنا من الهيمنة على الصحافة الدورية حتى تصبح في خدمتنا، تهيّج عواطف الناس حين نريد، وتثير المجادلات الحزبية الأنانية التي تخدم مصالحنا حين نريد، ونسيطر بواسطتها على العقل الإنساني.

ستكون لنا جرائد (صحف) شتى تؤيد الطوائف المختلفة من أرستقراطية وجمهورية وثورية، بل وفوضوية أيضا، وستكون هذه الجرائد ( الصحف) مثل الإله الهندي فشنو، لها مئات الأيدي وكل يد ستجس لنا نبض الرأي العام المتقلب.

سنصدر نشرات تهاجمنا وتعارضنا، ولكن بتوجيه اتهامات زائفة ضدنا، مما سيتيح لنا الفرصة لكي نقنع الرأي العام بأن كل من يعارضنا لا يملك أساسا حقيقيا لمناهضتنا، وإنما يعتمدون على الاتهامات الزائفة...

هذه القرارات جاءت في نهاية القرن التاسع عشر، وبعد مرور أكثر من قرن من الزمن، ورغم تطور وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال، نلاحظ أن الصهاينة يطبقون ويتمسكون بهذه البنود بنداً بنداً. والقارئ المتأمل والمحلل المتعمق لهذه القرارات، يلاحظ أنها تنسحب على قضية محاكمة غارودي بكل المعايير.

وقد يسأل سائل؛ كيف تفاعل الإعلام الفرنسي والدولي مع محاكمة غارودي؟ وهل فتحت القنوات التلفزيونية الفرنسية المجال أمامه لتنوير الرأي العام الفرنسي والعالمي حول أطروحاته وآرائه وما قاله في كتابه؟ وهل أعطت وسائل الإعلام الفرنسية والعالمية الفرصة لغارودي مثل ما فعلت مع سلمان رشدي وتسليمة نسرين؟! الجواب بطبيعة الحال؛ لا. فمع الأسف الشديد، أثبتت وسائل الإعلام الفرنسية خضوعها وولاءها للوصاية الصهيونية.

والاضطهاد الفكري طريقة عمل ووسيلة معروفة عند الصهاينة، حيث استعملت ضد النائب الأميركي بول فيندلي، وضد ممثل الولايات المتحدة السابق في الأمم المتحدة أندرو يونغ، وضد البروفيسور روبير فوريستون الذي قدم بحثا أكاديميا جامعيا عن خرافة حرق اليهود في الأفران النازية.

حيث وصفها بأنها أكذوبة صهيونية. كما سُحبت الدكتوراه من الباحث الفرنسي هنري روكيه، لأنه حاول أن يكشف عن أكاذيب الصهيونية. وفي المقابل نلاحظ أن فيلم ستيفن سيبلرغ "قائمة شاندلرز"، حظي بالدعم المالي والمعنوي والدعائي الصهيوني، لنشره وترسيخ الأساطير الكاذبة في أذهان البشر من مختلف الأجناس والأعمار فوق هذه المعمورة.

وحسب غارودي فإن معظم من هاجموه لم يقرأوا كتابه، وقد حاول مرارا وتكرارا الرد والتعقيب في نفس الجرائد التي شنت حملات ضده، إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل وحُرم من حق الرد والدفاع عن النفس.

وهكذا كانت محاكمة غارودي وصمة عار على جبين القضاء الفرنسي، وحرية التعبير والرأي، كما كانت محاكمة للحقيقة، لأن كل ما قدمه غارودي في كتابه، هو كشف وتعرية أساطير وأكاذيب عمرت طويلاً دون مساءلة ودون بحث أو استقصاء.

رحل الرجل الذي كافح وناضل من أجل الكشف عن الحقيقة، في عالم تسيطر عليه قوى مالية وسياسية تستعمل كل الطرق والسبل والوسائل، من أجل إخفاء الحقيقة والتشويه والتضليل لتحقيق مصالحها وأهدافها.. لكن الحقيقة لن تموت.

 

Email