العراق.. الديمقراطية والإرهاب

ت + ت - الحجم الطبيعي

يرى بعض الفرقاء العراقيين أن الأزمة السياسية حول سحب الثقة من حكومة نوري المالكي، شكلت مناخاً مناسبا للتفجيرات الإرهابية التي ضربت عددا من المدن العراقية في الآونة الأخيرة. أبعد من الإقرار بحقيقة مثل هذه، بقيت معالجة هذه الأزمة تراوح مكانها بالمناورات السياسية من كل نوع.

لكن السجال بين أنصار الحكومة ومعارضيها لا يتطرق أبداً إلى آليات الديمقراطية في حل أزمات من هذا النوع، بل يذهب إلى وجهة أخرى تماماً، حيث تتعالى اتهامات الاستقواء بالخارج بين الفرقاء. في المحصلة النهائية، لا يمكن أن يخرج المراقب إلا بنتيجة واحدة، هي أن السجال السياسي في العراق أصبح مرتبطا بشكل لا فكاك منه بالخارج.

أي أن مجمل الحياة السياسية أصبحت لا تعني أكثر من التعبير عن مصالح القوى الإقليمية، وليست تعبيرا عن ديناميات مجتمع "ديمقراطي" يراد بناؤه على أنقاض دكتاتورية جثمت طويلا على صدور العراقيين.

هكذا فإن قواعد الديمقراطية لا تمثل مرجعية من أي نوع. ويبدو مثل هذا الاستنتاج مفروغاً منه لدى الكثيرين، لكنه يؤشر في الوقت نفسه إلى طبيعة القوى اللاعبة الرئيسية في البلد، وإشكالية تاريخية حيال الانتقال إلى مجتمعات ديمقراطية حقيقية.

في أوضاع مثل هذه، يردد الكثيرون كل تلك المقولات المتعلقة بالوقت الطويل الذي يستغرقه بناء الديمقراطية والحاجة للصبر، وقد يكون هذا صحيحا إلى حدود، لكن كل ما يجري منذ العام 2003 في العراق، يثبت أن الأزمة لا تكمن في الناس بقدر ما تكمن في القوى التي تتصدر الساحة السياسية على أنقاض دكتاتورية البعث.

ومع الأخذ بعين الاعتبار ما مثله الاحتلال الأميركي من عنصر تخريب للمعادلة كلها، فإن أول انتكاسات الديمقراطية في العراق جاءت في الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2010. فالعبرة الوحيدة الباقية من كل ما جرى بعد تلك الانتخابات، هي أن قاعدة ديمقراطية أساسية لم يتم احترامها (تشكيل الأغلبية البرلمانية للحكومة الجديدة)، وجرى الالتفاف عليها بشكل لم يدع للعراقيين من قناعة سوى أن حكومتهم لم تشكلها صناديق الاقتراع وأصواتهم، بل شكلتها تدخلات إقليمية وحسابات لا صلة لها بالديمقراطية.

هذه ليست مسؤولية القوى الإقليمية التي تتدخل في الشأن العراقي فحسب، بل بالدرجة الأولى مسؤولية القادة العراقيين أنفسهم، الذين آثروا التماس نفوذ إقليمي وسمحوا به، بدلاً من ترسيخ قاعدة ديمقراطية في العراق الجديد. بعبارة أخرى؛ كان أمام القادة العراقيين في ذلك الوقت خياران: إما الاستسلام لضغوط وتدخلات القوى الإقليمية، أو مقاومة هذه الضغوط لصالح بناء ديمقراطية فاعلة في بلدانهم على المدى الطويل.

في الحالة الأولى قد يكون أولئك القادة العراقيون قد كسبوا على المدى القصير تأييد بعض العراقيين أيا كانت النسبة: نصفهم، ربعهم أو ثلثهم، لكن في الخيار الثاني كانوا بالتأكيد سيحظون باحترام العراقيين كلهم أو غالبيتهم الساحقة لأجيال قادمة.

لكن الأمر لا يتعلق بكسب قلوب الشعب فحسب، بل إنه يتصل بصميم مهمة بناء الديمقراطية في بلد عانى من ويلات الدكتاتورية والحروب المدمرة لعقود طويلة. وعندما يسجل التاريخ أن زعماء عراقيين ضحوا بمكاسب آنية من أجل مكتسبات بعيدة المدى لوطنهم وشعبهم، فإن هذا سيدل حتماً على نوع من القادة ذوي الرؤية البعيدة من بناة الأمم.

لكن أزمة انتخابات 2010، لم تترك أي استنتاج أمام العراقيين أنفسهم إلا أن الديمقراطية ليست هي الأولوية، بل السلطة نفسها، وتالياً الهيمنة. هكذا، ومع كل أزمة سياسية أو أمنية فإن أفق النقاش محدد سلفاً: "الخارج" بكل التنويعات الملازمة الأخرى لتنفيذ أجندات خارجية..

الارتهان للخارج بل والعمالة. المفارقة أن أنصار المالكي هم أكثر من يتهم خصومهم بتنفيذ أجندات خارجية وتلقي دعم إقليمي، متناسين أزمة انتخابات 2010 وكيف أن السيد المالكي استمر في منصبه برغبة إقليمية وأميركية لم تخف أبداً، كسرت أول ما كسرت إيماناً كان يتعين بناؤه وتعزيزه بالديمقراطية وسيلة للحكم والإدارة في عراق ما بعد صدام حسين.

وعودة إلى علاقة أجواء الأزمة بسلسلة التفجيرات الإرهابية، فإن هذا لن يعيد إلى أذهاننا تلك العلاقة بين الإرهاب و"الفوضى" فحسب، بل سيقودنا إلى الكيفية التي تنظر بها طبقة سياسية إلى الديمقراطية نفسها، وعلاقتها "المفترضة" بالفوضى أيضا.

فذلك الجواب على علاقة الإرهاب بالأزمة السياسية في العراق، هو جواب من نوع آخر على أن عملية سحب الثقة من أي حكومة (باعتبارها حقاً دستورياً)، لا تعني سوى إشاعة فوضى.

يبدو الجواب في ظاهره سليما، لكنه لا يجيب على سؤال يستتبعه: كيف تشيع ممارسة ديمقراطية فوضى في أجهزة الحكومة إلى الحد الذي يتراجع فيه أداؤها ويستغلها إرهابيون لتنفيذ سلسلة من التفجيرات على مدى أسبوع؟

من جديد، تصبح الديمقراطية بشكل غير مباشر موضع اتهام، والعبرة الباقية هنا هي أن ممارسة حق أو التماس أداة تتيحها الديمقراطية مثل سحب الثقة، تصبح معادلة للفوضى. فالعواقب خطيرة للغاية وتمس الأمن الوطني، بل تمس صميم حياة الناس.

هكذا تصبح ممارسة الديمقراطية مرادفاً للفوضى والموت. وأمام الدم والأشلاء فلا جواب لدى من فقد عزيزا ولدى الناس عموما، سوى القول: إلى الجحيم بالدستور وبالديمقراطية.

 

Email