الخرطوم وجوبا ما وراء الصراع

ت + ت - الحجم الطبيعي

حتى قبل أن يرفع الستار، كان من الواضح أن الجولة التفاوضية بين جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان المنعقدة في أديس أبابا، كان مقضيا عليها بأن تنتهي إلى فشل فوري، فقد جاء وفد دولة الجنوب ليطلب المستحيل. وهذا المستحيل يتجسد في خريطة جديدة رسمتها حكومة الدولة الجنوبية، تعتمد فيها خطا حدودياً جديداً للدولتين لضم مناطق أرضية شمالية إلى الرقعة الأرضية لدولة الجنوب، مما يعني إلغاء الخريطة الدولية للسودان الموحد، التي على أساسها أعلن استقلال السودان رسميا في الأول من يناير عام 1956.

والسؤال الذي يطرح هو: ما الذي يدفع حكومة الدولة الجنوبية إلى الاعتقاد بأنه متاح لها أن تفرض مستحيلاً على حكومة السودان؟

أجل، هناك تنازع بين الدولتين حول التبعية الجغرافية والسيادية لعدد من المناطق الحدودية، أبرزها منطقة أبيي، لكن الخط الحدودي الفاصل ينبغي أن تكون مرجعيته في كل الأحوال الخريطة الدولية لعام 1956، المودعة رسمياً لدى هيئة الأمم المتحدة.

لقد قال وزير خارجية دولة الجنوب، نيال دينق، إن حكومته «لا تعترف بخريطة الأمم المتحدة». وهذا القول يعكس جرأة على القانون الدولي نادرة المثيل.. الأمر الذي يحيلنا إلى السؤال المطروح، وهو: ما تفسير هذه الجرأة؟

هناك اعتباران تراهن عليهما حكومة الدولة الجنوبية. أولا؛ أن أحزاب المعارضة في السودان نأت بنفسها عن الصراع الدائر بين الخرطوم وجوبا، وكأن المسألة شأنا حكوميا صرفا، وليست قضية قومية تتطلب تلاحما بين كافة الأحزاب والقوى السياسية. ومن هنا ربما ترى جوبا المشهد السوداني في الشمال وكأنه يعكس ضعفاً في الموقف الحكومي.

ظاهرياً تتخذ قيادات المعارضة موقفا «حياديا» بين الخرطوم وجوبا، لكن هذا «الحياد» في حقيقة الأمر ينم عن تأييد بطريقة سالبة لموقف الطرف الجنوبي، ذلك أن هذه القيادات لا تتعامل مع الوضع من منظار قومي، وإنما من منظار الكيد الحزبي. وبينما لا نعرف على وجه الدقة ما تقوم به تنظيمات المعارضة في الخفاء، إلا أن من المؤكد أنها لا تتمنى للحكومة سوى الفشل تلو الفشل في سياق الصراع الدائر بين السودان ودولة الجنوب.

الاعتبار الثاني؛ يتمثل في مراهنة حكومة الدولة الجنوبية على السند الخارجي القوي من الولايات المتحدة. وعلينا هنا أن نستدعي الماضي القريب لكي نتفهم الحاضر الماثل.

واشنطن كانت الراعي الأكبر للعملية التفاوضية بين الشمال والجنوب، والتي انتهت إلى اتفاقية نيفاشا للسلام عام 2005. الهدف الاستراتيجي الأميركي آنذاك، كان إشراك «الحركة الشعبية» الجنوبية بزعامة جون قرنق في حكم سودان موحد، من أجل كبح توجه هذا الكيان الموحد نحو محيطه العربي الإسلامي. ل

كن بعد أن ثبتت استحالة ذلك عمليا خلال المرحلة الانتقالية لتطبيق اتفاقية السلام، تحولت واشنطن إلى هدف استراتيجي بديل.. وهو فصل الجنوب عن الشمال لإقامة دولة جنوبية مستقلة ذات سيادة، واستنزاف جمهورية السودان المجاورة عن طريق جرجرتها إلى سلسلة صدامات قتالية على نقاط وبؤر حدودية. وهذا بالضبط ما جرى وما يجري على مدى الشهور العشرة الأخيرة، منذ قيام الدولة الجنوبية المستقلة.

ما يستخلص من كل هذا، هو ألا تتعامل الحكومة السودانية مع قضية العلاقة بين السودان ودولة الجنوب بمعزل عن الأجندة الأميركية العدوانية. وبناء على ذلك، فإن من المفترض أن الحكومة تدرك أن النضال الدبلوماسي على الصعيدين الإقليمي والدولي، لا يقل عن الاستعداد العسكري على صعيد التعامل الثنائي مع قضية العلاقة مع دولة الجنوب.

وفي هذا السياق ينبغي على الحكومة توسيع إطار العلاقات مع دول الاتحاد الإفريقي، وتمتين الشراكة الاقتصادية والسياسية القائمة بين السودان والصين، مع تقوية العلاقات مع روسيا، لمجابهة الحرب الدبلوماسية التي تشنها الولايات المتحدة في معترك مجلس الأمن الدولي لصالح دولة الجنوب. يضاف إلى ذلك أن على الحكومة أيضاً استقطاب المزيد من الدعم الذي تلقاه من دول الجامعة العربية، انطلاقا من أن دولة جنوب السودان هي المعتدية على الشمال.

صفوة القول هي أن التدويل بات البعد الأهم والأساسي في علاقة دولة الجنوب مع جمهورية السودان، وعليه فإن على السودان أن يرسم مقاربته لهذه القضية من هذا المنظور.

Email