تمجيد الجلاد ونسيان الضحية

ت + ت - الحجم الطبيعي

طرق التساؤل ذهني وأنا أتابع خلال الأيام الماضية، بعض التغريدات على موقع "تويتر" ومداخلات على موقع "فيسبوك" ومقالات في مواقع تستعيد ذكرى هزيمة 5 يونيو 1967. استوقفني أن القاسم المشترك في كل هذه الاستعادة، هو "الأسى" وشعور غير قليل بالتصاغر أمام الحدث، وكأن شيئاً لم يحدث قبله ولا بعده.

فاصل النواح هذا يستوقفني لأكثر من سبب؛ الأول هو أن ما جرى بعد يونيو 1967، كثير ويطرح قراءات على النقيض من المشاعر التي يعاد إنتاجها بنفس النسق والنمط والدوافع مع تجدد ذكرى هذا الحدث. وهو ما يدفع للتساؤل: لماذا نستعيد ذكرى هزيمة 1967 ولا نستعيد ما جرى بعدها وهو كثير وذو مدلولات تشكل عنصر توازن نفسي وعقلي حيال كل ما تثيره هزيمة 1967؟

ففي 21 مارس 1968، شن الإسرائيليون هجوماً على الأردن من محاور عدة على طول الحدود بينهما، لكنهم ردوا على أعقابهم بهزيمة مذلة في معركة مشهورة هي معركة "الكرامة".

 فلقد تصدى الجيش الأردني والفدائيون الفلسطينيون بشجاعة للقوات الإسرائيلية التي انسحبت بعد ساعات من القتال، وطلبت إسرائيل وقف إطلاق النار تمهيدا لسحب قواتها، بعد أن تكبدت 250 قتيلا وعشرات الجرحى، غير الدبابات والآليات. أما المصريون فقد بدأوا حرب الاستنزاف ضد إسرائيل مباشرة بعد يونيو 1967.

في تلك المرحلة وقعت معركة "رأس العش" في أواخر يونيو 1967، التي منعت فيها قوات صغيرة من الجيش المصري الإسرائيليين من احتلال ميناء "بورفؤاد". وفي أكتوبر 1967، تمكن زورق صواريخ مصري صغير من إغراق المدمرة الإسرائيلية "إيلات".

أما سجل البطولة الأروع، فقد سجلته مجموعة صغيرة من قوات الصاعقة المصرية، أطلق عليها "المجموعة 39 ـ قتال"، التي كان يقودها واحد من خيرة من أنجبهم الجيش المصري، وهو الشهيد العميد أركان حرب إبراهيم الرفاعي. كانت هذه المجموعة تقوم بعمليات خلف خطوط الإسرائيليين في سيناء، واسمها يعود إلى عدد عمليات العبور التي قامت بها وهي 39 عملية، أبرزها عمليتان.

فبعد أن علم المصريون أن الإسرائيليين قاموا بنصب صواريخ "أرض/ أرض" في سيناء بسرية شديدة، قرروا أن يحصلوا على صاروخ من هذه الصواريخ لمعرفة نوعها ومدى الخطر الذي تشكله. تم تكليف "المجموعة 39" بالمهمة، فقامت بها في عملية أطلق عليها "عملية التمساح"، هاجمت خلالها مواقع إسرائيلية عدة وعادت بثلاثة صواريخ بدلا من واحد، حملها رجال الرفاعي على ظهورهم وعبروا بها إلى الضفة الغربية للقناة.

وفي 9 مارس 1969 استشهد رئيس أركان الجيش المصري وقتذاك الفريق عبد المنعم رياض، في نقطة متقدمة في الجبهة بقذيفة مدفع إسرائيلية. وبعد أن أمر الرئيس جمال عبد الناصر بعملية رد على مقتل رياض، أغارت المجموعة 39، في اليوم التالي مباشرة، على الموقع الذي أطلق القذيفة، وكان فيه 44 جندياً وضابطاً إسرائيلياً قتلوا جميعا وبعضهم بالسلاح الأبيض.

ثم خاض المصريون حرب أكتوبر 1973 بكل تفاصيلها المعروفة. لكن أحداً لا يتذكر هنا أن المصريين شنوا الحرب بنفس عنصر المفاجأة التي شن الإسرائيليون بها ضربتهم الجوية عام 1967. ودل التخطيط المصري للحرب على براعة، حيث كانت حرب أكتوبر ثمرة عملية خداع استراتيجي، سياسي وعسكري.

وفي اجتياح لبنان عام 1982، وقبل وصول الإسرائيليين لبيروت، تمكن بضعة مقاتلين فلسطينيين غالبيتهم شباب، من تدمير كتائب من الدبابات الإسرائيلية بخدعة بسيطة. فلقد كان الفلسطينيون وقتذاك يملكون بضع دبابات روسية قديمة من طراز "تي 34"، تعود للحرب العالمية الثانية.

ومع تقدم الإسرائيليين دفع القائد العسكري الفلسطيني الشهيد أبو الوليد بعدد من هذه الدبابات، لتتصدى لنحو أربع كتائب دبابات إسرائيلية كانت تتقدم من محور المطار. دمر الإسرائيليون الدبابات الفلسطينية بسهولة، فبادرت الباقية إلى الانسحاب فلحقتها الدبابات الإسرائيلية سعيا للقضاء عليها.

لكن الإسرائيليين وجدوا أنفسهم في فخ لمقاتلين فلسطينيين يحملون قواذف "بي 7" المضادة للدروع والرشاشات الثقيلة، وفي دقائق معدودة كانت الدبابات الإسرائيلية تتطاير قطعا في الهواء، ومن حاول الهرب من الدبابات حصدته الرشاشات الثقيلة.

وفي حرب 2006، ورغم الدمار الهائل الذي أحدثه سلاحهم الجوي، عجز الإسرائيليون عن اقتحام قرى صغيرة في جنوب لبنان، أمام مدافعين لا يزيد عددهم عن 50 مقاتلاً.

ترد هذه الحقائق على وهم يعاد إنتاجه من وقت لآخر، في فواصل نواح هزيمة 1967 حول تفوق إسرائيلي مزعوم، لكن الذهنية العربية لا تلتقط هذه الأحداث وهي مغيبة عنها. السبب، هو أن العرب المعنيين أنفسهم غيبوا هذه الصفحات من تاريخهم، إلا في حدود دنيا لا تصل إلى جهد التأريخ. لكن المؤسف أكثر، أن هذه الاستعادة نادراً ما تذهب إلى فصل متمم مسكوت عنه في هزيمة 1967، وهو مذبحة الجنود المصريين الأسرى.

قليل هم أولئك الذين يتطرقون لقيام إسرائيل بقتل الجنود المصريين الأسرى في 1967، وهو ملف مفتوح لم تحاسب إسرائيل عليه حتى اليوم. وما يجعل الاستهجان يصل مداه الأقصى، هو أن من يقومون بفاصل النواح الموسمي حول هزيمة 1967، لا يفعلون سوى إعادة إنتاج وهم التفوق الإسرائيلي. يحيلني هذا كله إلى وهم يسعى الإسرائيليون إلى ترسيخه في عقول الفلسطينيين خصوصا، وهو أنهم "شعب مهزوم"، وما فواصل النواح الموسمي هذه (حتى وإن بشكل غير مقصود) سوى إعادة إنتاج لهذا الوهم، الذي يسعى الإسرائيليون إلى زرعه في عقولنا جميعاً.

 

Email