مصر والطريق إلى التحرر

ت + ت - الحجم الطبيعي

في عهد ثورة يوليو الناصرية، حققت مصر الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي، مما أدى إلى تعزيز الأمن القومي المصري من خلال تحقيق الاكتفاء الذاتي في الغذاء الضروري. وجاء عهد مبارك، ومن قبله عهد السادات، ليشهد تفريطا خطيرا في كلا الاستقلالين، من خلال سياسات مرسومة. ويتجلى هذا التفريط بصورة خاصة، في قضية مصر والقمح والخبز. والآن، وفي ظل ثورة «25 يناير»، فإن السؤال الأكبر الذي يُطرح هو: هل تسترد مصر أمنها الغذائي كأحد روافد الأمن القومي؟ وكيف؟

لننظر في قضية مصر والقمح، لندرك مغزى أهمية هذا التساؤل. فخلال عهد ثورة يوليو التي تواصلت طوال عقد الستينيات، كانت مصر تنتج من القمح ما يكفي سكانها البالغ عددهم حينئذ 26 مليونا، على مساحة تعادل نسبة 3.5% من أراضيها الزراعية القابلة للاستزراع بصورة طبيعية. فماذا جرى؟

في عهد مبارك دخل على الخط صندوق النقد الدولي، الذي تستغله الولايات المتحدة كذراع اقتصادية تخدم أهداف سياستها العالمية.

وبينما ازدادت الأرض المزروعة بمقدار الربع، فإن المساحة التي كانت مخصصة لزراعة القمح تقلصت، حتى صارت مصر في عهد مبارك وحتى اليوم أكبر مستورد للقمح في العالم، حيث تشتري 10 ملايين طن سنويا من أسواق الأغذية العالمية المتقلبة.

هذا التحول لم يأت من فراغ، فقد جاء نتيجة لتجاوب النظام الحاكم مع إملاءات صندوق النقد. وهكذا كانت سلطة مبارك تنفذ مخططا لتحويل القطاع الزراعي المصري، بعيدا عن هدف تحقيق الاكتفاء الذاتي في الغذاء الرئيسي لإرساء قواعد الأمن الغذائي للبلاد.

لقد ازدادت رقعة الأرض الزراعية كما سبقت الإشارة، ولكن بدلا من استزراع المساحات الإضافية بمحاصيل أساسية وضرورية كالقمح، فإن معظم هذه الأراضي الإضافية منحت لكبار رجال الأعمال من محاسيب النظام، الذين عمدوا إلى استغلالها بزراعة محاصيل نقدية ترفيهية قابلة للتصدير، كالفراولة والمانجو.

نظريا، كان من الممكن القول إن العائدات المالية بالنقد الأجنبي من صادرات الفراولة وأخواتها، سوف تستخدم في استيراد منتجات زراعية ضرورية كالقمح، وأيضا لتوفير فرص عمل. ولكن ما كان يحدث عمليا، هو أن رجال الأعمال أقاموا مزارع مزودة بأحدث الآلات الزراعية، لم توفر سوى النزر القليل من الأعمال للفلاحين. ثم إن الكثير من هذه العائدات النقدية، كانت تجد طريقها إلى الحسابات المصرفية الشخصية لبعض رجال الأعمال.

يقول المركز المصري للدراسات الاقتصادية في القاهرة، إن الاقتصاد الوطني المصري كان في حالة نمو، لكن المستفيد منه لم يكونوا سوى المنتمين إلى الشريحة الطبقية العليا، المكونة من كبار رموز النظام الحاكم ونخبة كبار رجال الأعمال المتحالفين معهم وأقربائهم. وفي هذا السياق يقول المركز إن الهدف كان زيادة معدل النمو الاقتصادي.. وقد تحق ذلك. ولكن مع الغياب المتعمد للانضباط والمحاسبة، استشرى الفساد ما أدى إلى جعل عائدات النمو محصورة في أفراد قلائل.

وإلى جانب استشراء الفساد، اتسم نظام مبارك بظاهرة الخصخصة. وهي نظام قَصَد منه فتح مجال جديد أمام شريحة رجال الأعمال للإثراء غير المشروع. ووفقا لقواعد اللعبة، يتخذ المبادرة صندوق النقد الدولي. فمن حين لآخر تتقدم إدارة الصندوق بأسماء عدد من شركات ومؤسسات القطاع العام إلى السلطة العليا، مقترحة عرضها للبيع إلى القطاع الخاص، بحجة أنها شركات أو مؤسسات خاسرة.

وتباع الشركات والمؤسسات المرشحة بسعر التراب إلى رجال الأعمال الموالين للنظام، الذين بدورهم إما أن يتملكوها أو يبيعوها لأصحاب شركات أجنبية. كان الهدف البعيد هو تصفية دور الدولة في إدارة الاقتصاد الوطني، ليقع بدوره تحت السيطرة الكاملة للشريحة الطبقية العليا، ثم هيمنة مجموعة شركات غربية.

هذا هو الوضع الذي ورثته الآن ثورة «25 يناير»، وبما أنه وضع يجعل من مصر حالة استعمارية بالمَعْنَيَيْن السياسي والاقتصادي، فإن المرحلة الجديدة التي دشنتها الثورة، ينبغي أن تكون مرحلة تحرر جذري وشامل، ينتقل بمصر من عهد إلى عهد آخر مختلف تماماً.

 

Email