بقالة الفتاوى

ت + ت - الحجم الطبيعي

استمعت لساعة كاملة لبرنامج حواري كان بُثَّ على إذاعة بي بي سي العربية في الأسبوع الماضي، وكانت تدور حلقة البرنامج حول فتاوى الخروج على الحاكم الظالم ما بين تحليل وتحريم.

وقبل أن يدلي المتحاورون في البرنامج بآرائهم حول هذا الموضوع تم استعراض مقاطع صوتية قديمة لفتاوى عدد من علماء الدين حول ما تم تسميته بالربيع العربي وشرعية الخروج على الحاكم سواء كان حاكماً ظالماً أو غير ذلك. الرأي الأول كان لأحد العلماء المشهورين طالب فيه بالخروج على الحاكم وقتله (يقصد معمر القذافي) من أجل نجاة الشعب، بينما جاء الرأي الآخر مختلفاً تماماً محرماً الخروج عليه مهما كانت الأسباب، أما عالم الدين الثالث فقد أجاز الخروج على الحاكم بشروط محددة.

بعدها دخل المتحاورون في حوارٍ مع مقدم البرنامج يدلي كل واحد منهم بدلوه في هذا الموضوع ما بين موافق ومعارض وما بين البينين، مستشهدين بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة حول هذا الموضوع.

ولا أخفي عليكم أني طوال استماعي لهذه الحلقة كنت اقتنع بحديث كل ضيف منهم ثم أغير رأيي عندما استمع للضيف الآخر، لدرجة شعرت فيها أن هناك صراعاً بين ثلاثة أشخاص داخل دماغي حول هذا الموضوع، مما أدى إلى عدم قدرتي على الخروج بقناعة معينة حول اشكالية فتوى الخروج على الحاكم.

حقيقة، شعرت بنوع من الحزن بعد متابعتي لهذا البرنامج، فإن كنت أنا العبد الفقير إلى الله الذي لديه ثقافة دينية متوسطة وأتابع مجريات الأحداث على مستوى العالم قد عجزت عن الاقتناع برأي معين في مسألة هامة كهذه، فكيف هو الحال بأولئك البسطاء من المسلمين الذين ليس لديهم المعرفة التامة بتعاليم الدين ولا المسائل الفقهية التي عليها خلاف، خاصة أنهم ببساطتهم يثقون.

فيما يقوله علماء الدين فيتبعونهم في الفتاوى والأقوال حتى لو كانت على خطأ. يجرنا هذا إلى كثير من العلماء الذين باعوا آخرتهم من أجل دنياهم، وجعلوا من الفتاوى المختلفة في شتى شؤون الحياة مصدر عُقدٍ لا مصدر حل للمسلمين في حياتهم اليومية، فأصبح الكثير من المسلمين يتعايشون مع فتاوى متضاربة ومتناقضة في آنٍ واحد وخارجةً عن الضوابط والقواعد المتعارف عليها بين العلماء.

حيث ظهرت فئة لا هم لها سوى تحليل كل شيء واستسهال الرخص بصورة مفرطة تثير الشك حتى لدى المسلم البسيط، تذكرني هذه النوعية من علماء الدين بأحد الأصدقاء الذي استشار رجل دين في موضوع عدم موافقة أهل الفتاة على زواجه من الفتاة التي يحبها، وبكل بساطة أفتى له بأن يخطفها ليرغم أهلها على الموافقة على زواجهما، نعم.. هكذا بكل بساطة خرجت الفتوى من فمه، ولله الحمد أن صديقي شخص عاقل لم يتهور ليأخذ برأي هذا المحسوب على علماء الدين، وكما قيل قديماً: يحللون بزعمٍ منهم عقداً .. وبالذي وضعوه زادت العقد.

وظهرت فئة أخرى كانت أشد وبالاً من الفئة السابقة، فئة تحرم ما أحل الله وتضيق على المسلمين في شتى شؤون الحياة، وضعت لنفسها الحق في إصدار فتاوى التفجير والتكفير وغيرها من الفتاوى التي جرت الويلات على المجتمع الإسلامي خلال العقد الأخير من الزمان ودفع ثمنها غالياً أرواح الأبرياء من شباب المسلمين وغيرهم.

والطامة الكبرى التي نعيشها حالياً تتمثل في تحول العديد من القنوات الفضائية إلى منابر لإصدار الفتاوى بعلمٍ أو غير علم، فأصبحت برامج تجارية أكثر منها دينية الهدف منها الإعلانات وكسب المال، أضف على ذلك فإن الصفحات المختلفة على شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة بدأت تزاحم القنوات الفضائية في مسألة الفتوى، حتى صارت مهنة وتخصص من لا مهنة له.

نحن بلا شك نحتاج في العالم الإسلامي إلى مراجعة أنفسنا بهذا الخصوص من خلال وضع آلية لتنظيم الفتوى عن طريق إنشاء هيئة عالمية للفتوى تخضع للرقابة من قبل العلماء الثقاة وتتصدى لكل الفتاوى الشاذة والغريبة، وذلك أسوة بمراكز الإفتاء التي أنشأتها عدد من الدول لتنظيم عملية الإفتاء وبما يخدم حياة المسلم، كما يتعين التصدي بكل حزم للفتاوى الشاذة التي تخرج من أفواه المحسوبين على العلماء، وفي الختام لا بد أن نذكر بقوله تعالى: {ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}.

 

Email