التقشف.. استراتيجية معيبة

ت + ت - الحجم الطبيعي

وجهت الانتخابات الأوروبية، مؤخراً، ضربة مذهلة للتقشف، الذي يشكل إحدى السياسات الاقتصادية الأكثر عمقاً في مجافاتها للصواب، التي اقترحت في العصر الحديث. ففي فرنسا، خرج الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي من سدة الحكم، وفي الانتخابات البرلمانية اليونانية، فازت الأحزاب المناهضة للتقشف، وحدث الشيء نفسه في الانتخابات المحلية في بريطانيا ودول أخرى.

ولسنوات عدة، وجه الساسة والتكنوقراط الألمان، بصورة أساسية، جيرانهم المسرفين في جنوب أوروبا، بفرض سياسات تقشف قاسية، لمواجهة أزمة الديون المستمرة في القارة. وكان ذلك ثمن المساعدة الألمانية، وكان متفقاً تماماً مع مزاج الألمان.

وفي اللغة الألمانية، فإن كلمة "دَين" هي الكلمة نفسها المستخدمة للتعبير عن الشعور بالذنب. والحقيقة أن هذا هو بالضبط ما يطالب به بعض الجمهوريين في الكونغرس لخفض الديون الأميركية المتنامية، حتى في الوقت الذي يواصل الاقتصاد الأميركي معاناته. والفرق الوحيد هو أن الجمهوريين لا يسمون خطتهم "تقشفاً".

 يوما بعد آخر، يستمر كبار الاقتصاديين في مهاجمتهم لاستراتيجيات التقشف، ولكن لا يبدو أي من أولئك الأشخاص قادرا على أن يشرح، بلغة سهلة وبسيطة، لماذا يعد فرض التقشف الآن تصرفاً متهوراً تماماً، أو بالأحرى تصرفاً غبياً فحسب. ودعنا نتأمل عبارة بليدة قالها اقتصادي من ألمانيا، التي يصف اقتصاديوها التقشف بـ"الانكماش المالي التوسعي"، فهل من المستغرب أن أحداً لا يفهم حقاً جلية الأمر؟

وإليكم ما يعنيه التقشف، بلغة واضحة لا لبس فيها: في ظل خطط التقشف، يتعين على الحكومات أن تخفض إنفاقها بشكل جذري. كيف تفعل ذلك؟ إنها تشتري عددا أقل من السلع، وتقلل خدماتها الحكومية.

والمصنعون هم من يبيع تلك السلع، والموظفون هم الذين يقدمون الخدمات. وعندما تخفض الحكومة إنفاقها، تخسر الشركات والمصانع دخلاً كبيراً، ولذا فإنها تضطر إلى الاستغناء عن أعداد كبيرة من العمال، وذلك يقلل الإيرادات التي تجنيها الحكومة من ضرائب الدخل، ويرفع معدل البطالة في البلاد، ويزيد دفعات إعانات البطالة.

وكل ذلك يرتد على الاقتصاد، إذ تعاني الشركات الأخرى، كذلك، لأن المستهلكين يملكون مالا أقل. وقد شهدت اليونان إغلاق ما يزيد على 60 ألف متجر تجزئة، مما تسبب في فقدان المزيد من الناس لأعمالهم، بمن فيهم الموردون وتجار التجزئة، وغيرهم كثيرون.

وتعمل برامج التقشف على دفع الاقتصادات الضعيفة مباشرة إلى الركود، بكل بساطة.. وهذا هو بالضبط ما يحدث في أوروبا. وحتى الآن، سقطت 12 دولة من دول أوروبا السبع والعشرين، في هاوية الركود. وليست إسبانيا وبريطانيا سوى آخر دولتين انضمتا إلى تلك القائمة، والعديد من الدول الأخرى آخذة في الترنح.

وإذا سارت الأمور على النحو الذي يريده حزب الشاي في واشنطن، فإن هذا هو ما سيحدث في أميركا. ومع خسارة ساركوزي، فإن 11 رئيساً أوروبياً تم إخراجهم من مناصبهم، غالباً لأنهم تبنوا برامج تقشفية. وسقطت الحكومة الهولندية أخيراً، بسبب خطة تقشف مقترحة.

وفي أوروبا، حالياً، يقف معدل البطالة على مستوى القارة عند 10.9%، وهي أعلى نسبة منذ 15 عاماً. وفي إسبانيا "الزعيمة"، فإن 23.6% من الناس بلا عمل. ورغم خطورة هذه المشكلات، فإنها ليست المشكلات الوحيدة.

فعبر جنوب أوروبا، بشكل أساسي، يعمد عشرات الأشخاص اليائسين من الوضع الاقتصادي، إلى إزهاق أرواحهم بالرصاص أو الشنق، وقد سجلت السلطات العشرات من حالات الانتحار. وينظم آخرون مسيرات واسعة النطاق وغاضبة، كتلك التي اكتسحت أرجاء أوروبا في عيد العمال. وبالتأكيد، فإن ذلك كله حطم حجة ألمانية أخرى للتقشف، وهي بناء الثقة في الدول واقتصاداتها. ومن الواضح أن تلك الحجة لا تجدي نفعاً.

في الواقع، وكما قال بوضوح مؤخراً جوزيف ستيغليتز، وهو خبير اقتصادي أميركي حائز جائزة نوبل، فإن "أوروبا تسير نحو الانتحار"، لأنه "لم يسبق أن نجح أي برنامج تقشف في أي دولة كبرى".

وتوقعت منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة، في تقرير جديد، أن عدد الأشخاص الذين سيفقدون فرص عملهم حول العالم، سيرتفع بواقع ستة ملايين شخص بحلول نهاية العام الجاري، "بالدرجة الأولى في أوروبا"، لأن "التركيز المحدود من جانب العديد من دول منطقة اليورو على التقشف المالي، يفاقم أزمة الوظائف". ويدعو فرانسوا هولاند، الرئيس الفرنسي الجديد، إلى ما يسميه سياسات "النمو"، بدلاً من ذلك.

وبشكل عام، فإن ذلك يعني إنفاق أموال التحفيز (كما فعلت إدارتا الرئيسين الأميركيين جورج بوش وباراك أوباما في الولايات المتحدة) لكي يتسنى للاقتصاد النمو، والبدء في إنتاج المزيد من عائدات الضرائب، التي يمكن استخدامها حينذاك لسداد الديون. وفي الولايات المتحدة، تجادل إدارة أوباما بأن إنفاقها لأموال التحفيز في عامي 2009 و2010، جنب البلاد انكماشا اقتصاديا أكثر خطورة. وفي حين أن ذلك يبدو منطقيا، فإن تأكيده غير قابل للإثبات.

ولكن تخيلوا ما كانت الولايات المتحدة ستؤول إليه اليوم لو أنه، بدلاً من ذلك، تم فرض خطة تقشف قاسية. وفي أوروبا، لا تزال المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ترفض الاعتراف بأن "وصفتها" السياسية فشلت فشلاً كارثياً.

وقد أصرت مؤخراً على أن "الاتفاق المالي" الذي يدعو إلى التقشف "غير قابل للتفاوض". وبالتأكيد، فإن السياسة الداخلية تساهم في تحديد موقفها، إلا أن ملايين الناس يعانون، والعشرات منهم يموتون. وفي برلين، وواشنطن، حان الوقت لأن تستيقظوا، وتنظروا حولكم، وتغيروا موقفكم.

 

Email