الكرواسان الفرنسي لن يتغير طعمه كثيراً

ت + ت - الحجم الطبيعي

تناول الفرنسيون قبل أسبوع إفطارهم على رائحة قهوة وكرواسان رئيس وتناولوا عشاءهم في نفس تلك الليلة على أطباق رئيس آخر. غير أن الفرق كبير بين الصبح والعشاء. انتقلت فيه فرنسا من اليمين إلى اليسار . وهكذا اتخذ الفرنسيون قرارهم بكل ثقة وبكل حماس.

هذه الدول الديمقراطية يمكن أن تكون نموذجاً حياً لممارسة الديمقراطية في العالم. وبالخصوص الانتخابات الفرنسية. وعلى عكس الانتخابات الأميركية، حيث لا يوجد سوى حزبين أمام الناخب ولا يوجد بينهما وسط، نجد أن فرنسا تضع أمام الناخب مجموعة من الاختيارات تمثل كل الآراء والأفكار والتوجهات والأطياف.

حيث تنتقل تدريجياً من اليمين المتطرف إلى اليسار المتطرف وما بينهما. في فرنسا، لا يستطيع أن يعترض المواطن بأنه لا يوجد حزب يترجم أفكاره. في فرنسا (كل شيء متوفر في السياسة.. فقط عليك الاختيار). وحيث إن قواعد اللعبة تحتم في النهاية اختيار حزب واحد، فالكل ينتهي به المطاف إلى حزبين رئيسيين متصارعين بهدوء وحكمة. وما عليك سوى اختيار الأفضل.

اليوم فرانسوا هولاند الذي توقعت كافة الاستطلاعات ومنذ زمن طويل انتصاره على خصمه ساركوزي، أصبح حاكماً يسارياً جديداً لجمهورية فرنسا. وهو الرئيس الرابع والعشرين على مدى قرن ونصف القرن. وسوف يسجل التاريخ بدءاً من الثلاثاء القادم كل قراراته وتصرفاته والأطر العامة التي على أساسها قاد البلاد والعباد. وقد يظن البعض بأن فرنسا تحولت إلى اليسار كما تتحول السفينة من جهة إلى أخرى. وهذا غير صحيح. فالسفينة تسير نحو نفس الهدف ولكن بطاقم جديد وبأفكار تلائم الوضع الراهن.

القواعد العامة للسياسة الفرنسية ستظل كما هي، سواء في الداخل أو الخارج. بمعنى آخر، يجب أن لا نحلم بأن يقوم هولاند على سبيل المثال بالوقوف في وجه استمرار بناء المستوطنات الإسرائيلية أو يطالب بحق تقرير المصير للفلسطينيين أو يهدد بالتدخل العسكري في إيران. فالسياسة العامة التي يرسمها خبراء فرنسيون متخصصون في غرف مغلقة بناء على معطيات معينة تحفظ مكانة فرنسا وقوتها وازدهارها، لن تتغير.

ما سيتغير هي بعض النقاط التي تصب في النهاية في مصلحة الوطن. وكما قال ساركوزي في خطاب الوداع المؤثر جداً الذي ألقاه أمام مناصريه ليلة هزيمته، بأنه لا يشعر بالألم ولا بالحقد أمام انتصار خصمه هولاند لأن مصلحة فرنسا تأتي في المقام الأول وفوق أية مصلحة أخرى وأن ما يهمه هو ازدهار فرنسا القوية.

ثم أن هناك مسألة أخرى، وهي عدم الخلط بين الوعود التي ينادى بها المرشحون قبل الانتخابات وبين الواقع فيما بعدها. فلطالما وعد رؤساء فرنسا وكذلك غيرها من دول العالم المتحضر ديمقراطياً شعوبهم بأحلام وردية كسبوا المعركة بناء عليها ثم لم يلتزموا بتنفيذها فيما بعد عندما أصبحوا رؤساء. بالطبع الحجج تكون عادة جاهزة.

وفي كثير من الأحيان ترمى بالمسؤولية على النظام السابق. وانتهى الأمر. غير أن هناك القواعد والثوابت الرئيسية تظل راسخة. فلا نتخيل مثلًا أن يأتي رئيس جديد لفرنسا وينصب نفسه ملكاً بعد مرور سنة! أو يلغي الدستور، مثلًا!

ثم علينا نحن العرب والمسلمين، أن لا نحلم بأن تتغير سياسة هولاند الخارجية اللهم إلا في حدود المسموح له به. وأتصور أن هولاند لتأثره بآخر حاكم يساري حكم فرنسا ما بين 1981 و 1995 وهو فرانسوا ميتران ــ فإننا قد نعود مرة أخرى إلى حالة الفتور والبرود التي شابت العلاقات العربية الفرنسية.

فحزب اليسار الفرنسي يركز عادة على القضايا الداخلية وينأى عن الاهتمام بالعلاقات الخارجية، ثم انه في داخله يعتبر الدول الإسلامية والعربية دولًا ما زالت إما دكتاتورية أو غير ديمقراطية تتنافى مع المبادئ اليسارية ويصعب بالتالي التعامل معها أو أنها تزحف ببطء نحو الديمقراطية ولكن ليست بتلك الديمقراطية الشفافة كما هي في دول العالم المتحضر.

المهم أن المهاجرين المغاربة والأفارقة الذين يعيشون على تراب فرنسا شعروا بالارتياح بعد أن زاح عن كاهلهم كابوس ساركوزي القادم بسيف لا يرحم. وبدأوا يحلمون بوضع إنساني أكثر رحمة وتفهماً من سابقه. ولكن بالتأكيد لن يكون على حساب طعم الكرواسان الفرنسي.

 

Email