الخرطوم وجوبا ومستقبل العلاقة مع الصين

ت + ت - الحجم الطبيعي

مع تصاعد التوتر المتفجر بين جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان، تجد الصين نفسها في مأزق نفطي بالغ التعقيد. فهل يفضي هذا التعقيد إلى تداعيات سياسية من نوع أو آخر؟

معظم النفط يتدفق من حقول تقع جغرافياً داخل أراضي الجمهورية الجنوبية، لكن خط الأنابيب الذي ينقل النفط يتخذ معظم مسافة مساره على أراضي دولة السودان الواقعة شمالا، لينتهي إلى ميناء تصدير على البحر الأحمر داخل الأراضي السودانية أيضاً.

هنا تستوقفنا حقيقة كبرى ثلاثية الأضلاع، على النحو التالي:

أولاً: أن حكومة جنوب السودان إذ تمتلك الحقول النفطية، فإنها لا تمتلك وسيلة تصدير المادة إلى الخارج. ثانياً: أن حكومة جمهورية السودان إذ تتحكم في النقل والترحيل، فإن الحقول النفطية لا تقع تحت سيطرتها. ثالثاً: أن شركة النفط الصينية العاملة إذ تتولى عملية الإنتاج والضخ في الحقول، فإن مسؤوليتها تتوقف عند هذا الحد.

على مدى الشهور العشرة الأخيرة، منذ انفصال الجنوب السوداني عن الشمال وتحوله إلى دولة مستقلة ذات سيادة، دخلت العلاقة بين الجانبين مرحلة من التوتر الانفجاري تتراوح ما بين معركة كلامية وصدامات مسلحة، كان من بين نتائجها توقف العملية النفطية من الإنتاج إلى التصدير. إزاء هذا التطور الخطير أصيبت الصين بقلق متعاظم من مصدرين، أولاً: من حيث كونها المستثمر الأكبر في إنتاج النفط الجنوب - سوداني.. وثانياً: أنها المستهلك الأعظم لهذا الإنتاج.

لقد بدأ الاستثمار الصيني في مشروع السودان النفطي عام 1996، حين كانت الحرب بين الشمال والجنوب في أشد مراحلها شراسة. ورغم أن الصين لم تشأ أن يكون لها موقف صريح لتأييد طرف على آخر، إلا أنها عملياً خلال سنوات عهد حكم «الإنقاذ» بزعامة الرئيس عمر البشير، صارت أكبر مصدر لتسليح جيش جمهورية السودان، الأمر الذي جعل كفة الحرب تميل لصالح القوات المسلحة القومية، ضد حركة التمرد الجنوبية التي كان يقودها جون قرنق، مما حدا بالولايات المتحدة إلى التدخل لإحلال السلام، إنقاذا للحركة الجنوبية من هزيمة عسكرية صارت شبه حتمية عند نهاية عقد التسعينيات.

مع ذلك فإن الصين حرصت عند إنشاء دولة الجنوب المستقلة، على الظهور بمظهر الطرف الثالث المحايد الذي لا هاجس لديه سوى المصالح الذاتية القائمة على شراكة مع كل من الشمال والجنوب، كما تمثلها مؤسسة النفط الوطنية الصينية. ومن الواضح أن صمود المصالح الصينية على هذا النحو، مرتهن بالدرجة الأولى لاستقرار العلاقة بين الشمال والجنوب على أسس سلمية.

إن إنهاء عملية توازن دقيقة تتطلب من الصين التحلي بأعلى درجات الحذر، لكن التوتر الصدامي المتصاعد على كافة المستويات الدبلوماسية والعسكرية، قد يبلغ نقطة خطيرة بين الخرطوم وجوبا، بحيث يفرض على بيكين أن تتخذ موقفاً انحيازياً حاسماً وقاطعاً، إما لجانب جمهورية السودان أو إلى جانب جمهورية الجنوب. فماذا تفعل الصين؟

لكي نتبين طبيعة مثل هذا الوضع وخطورته وخطورة تداعياته، فإن علينا أن نستدعي إلى أذهاننا أن التشابك بين الخرطوم وجوبا وبين كل منهما مع الصين، ليس محصوراً في قضية النفط إنتاجاً وتصديراً. إنها بالدرجة الأولى قضية سياسية متشعبة، ينتشر مداها إلى ساحة الصراع الإفريقي والصراع الدولي بين الصين والولايات المتحدة.

من هذا المنظور ندرك أن دولة جنوب السودان أريد لها منذ قيامها - بل وقبل ذلك منذ إبرام اتفاقية نيفاشا للسلام - أن تكون قاعدة أمريكية لخدمة الأجندة الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية في القارة الإفريقية. وانطلاقاً من هذه الأجندة، فإن مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة تهدف إلى تصفية الوجود الصيني، ليس في دولة الجنوب فحسب، بل أيضاً في دولة الشمال العربية الإسلامية. على الناحية الأخرى.

فإن علاقة جمهورية السودان تحولت في عهد الرئيس البشير و«المؤتمر الوطني» الحاكم، إلى شراكة استراتيجية متعددة الجوانب. لقد بدأت هذه العلاقة العريقة في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، حين كان السودان ثاني دولة عربية بعد مصر الناصرية تعترف بجمهورية الصين الشعبية، عندما كانت - أي الصين الشعبية الشيوعية ـ تواجه حملة مقاطعة عالمية بقيادة الولايات المتحدة. من أجل هذا كله، فإن الصين تراهن بمنظور المستقل على العلاقة العريقة مع الخرطوم، أكثر من مراهنتها على علاقة نفطية طارئة مع جوبا.

 

Email