عن الدين والتقدم والتدين

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم أحب الذهاب إلى خطبة الجمعة وانا مراهق، قتلني الخطيب خوفاً وذنباً وهو يحكي بشكل غاضب لا ينقطع عن كون النساء والأغاني والفن...الخ الأسباب الحقيقية الكامنة خلف تأخر العرب والمسلمين، لم يكن عقلي الطري يستسيغ هذا الربط بين نهضة أمة أو بلد وبين أشياء كانت جزءاً طبيعياً من حياتي اليومية وكان مروان المراهق في ذلك الوقت ينفر من أن يدخل في هذا الصراع القهري والمبهم بين التقدم والدين.

وقبل شهور كتب صديق مقالاً عن العلمانية، ورغم أنه لم يكن موفقاً في رأيي في تعريف العلمانية أو مدى حاجتنا إليها في الوقت الراهن على الأقل وكذا إمكانية نموها في التربة العربية من عدمه، فإني أذكر ردة فعلي الأولى : التأييد والحماس المفرط، حيث رأيت بعين الخوف والهلع تصاعد نجم الإخوان المسلمين والأحزاب السياسية الإسلامية الأخرى منذ العام الماضي، بدا توقيت المقال ومضمونه حينها رائعا ومواتياً.

أعرف الكثيرين من عامة الناس ومن المثقفين ممن تتشابه ردود فعلهم معي في الحادثة الثانية، وأعرف الكثيرين أيضاً ممن يحملون ذكرى مشابهة في الحادثة الأولى.

في الحالتين وفي خضم المد الديني الحالي والمستمر منذ السبعينات الميلادية (الذي من الصعب فصله عن الاستخدام المتزايد للخطاب الديني في الحركات السياسية) فإن سيطرة تفسيرات لاعقلانية على الدين حملها بعض فقهائه وشيوخه ومن خلفهم عموم الناس على التفسيرات الأكثر عقلانية أو تنوراً تسببت في توليد ردات فعل متعددة، أبرزها الخوف أن يحل الإسلام محل الديكتاتوريات العربية القديمة في إقامة أنظمة قمعية تحكم باسمه هذه المرة، الغريب هنا أن الأنظمة العربية القمعية (العلمانية) الناصرية والبعثية والإشتراكية...الخ كانت تستخدم الإسلام من وقت لآخر لإضفاء لمسة من الشرعية والطمأنينة على مشاريع التقدم والنهضة التي صادرت باسمها الأرض والشعب والتقدم سواء بسواء والتي لم تنتج سوى دوائر متعاقبة من التخلف والفشل والإفلاس الحضاري.

بدأت في سنوات مراهقتي عندما تعلق عقلي بقراءة الكتب وتحليل الأفكار والظواهر، بملاحظة التناقض المفتعل بين الإسلام والتقدم في حياتنا، فقد كنت أعي أن الحاجة العربية للدين عميقة وراسخة، وأن هذه الحاجة هي في أصل النفس البشرية (رغم أن البعض قد يذكر أن لهذه الحاجة دافعاً بيولوجياً)، حيث أن الإنسان يحتاج أن يؤمن بما يتجاوز عالم المحسوسات والمرئيات إلى ما هو روحاني ومرتفع عن هذه الأرض، والأهم أن هذه الحاجة تقع في صلب الدافعية الكامنة وراء بناء الحضارة والنهضة والتقدم، لكن هي أيضاً نفس الحاجة التي تحمل خطر انحراف النشاط الانساني عن اهدافه المرغوبة.

نحن إذن أمام تحد عويص، هناك الحاجة البشرية وبالذات العربية العميقة للدين والتي تشكل دافعاً مهماً للتقدم والنهضة والعمران ولكنها معرضة للاختلاط بعواطف متطرفة وأن تفسر لا عقلانياً بحيث تؤدي لتحول الإسلام إلى عائق أمام التطور والتقدم، كيف نستطيع إذن توليد تيار يعمل من أجل نهضة عربية شاملة بحمية دينية قوية، خالية من أي أثر للتطرف واللاعقلانية؟، لا أعرف.

لكننا سنؤدي لأنفسنا خدمة كبيرة إن بدأنا مثلاً بوضع حد فاصل بين الدين والتدين وأجزم أن أكثرنا يكاد لا يعي الفرق بينهما، الدين كما نعلم ظاهرة سماوية، أما التدين فظاهرة بشرية واجتماعية، وككل ظاهرة بشرية واجتماعية، يسري عليها ما يسري على غيرها من ظواهر اجتماعية من حيث خضوعها للتطور، (بينما الدين ثابت لا يتغير) ومن حيث اختلافها بين بلد وآخر وأمة وأخرى (حتى مع اعتناقهم لنفس الدين) ومن حيث تأثرها بما يطرأ على أحوال المجتمع من تغيرات اقتصادية وسياسية ونفسية.

وأختم القول بأننا يجب أن نتحلى بالشجاعة للتمييز بين الدين والتدين. السؤال هو: هل الشجاعة مطلوبة في هذا الموضع؟ نعم، لأن نقد شكل من أشكال التدين كثيراً ما يعني نقداً للدين نفسه، فإذا بعاصفة من الإرهاب الديني تهب ضد أي شخص يتجرأ على نقد التدين. وأضيف سؤالاً آخر: هل سنكون قادرين يوماً ما على تنقية تديننا حتى نوفق أخيراً بين الدين والتقدم ؟

Email