اللغة والهوية

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مبادرة تاريخية، أطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، في إطار "رؤية الإمارات 2021"، حزمة مبادرات لتعزيز مكانة اللغة العربية، تشمل ميثاقاً للغة العربية لتعزيز استخدامها في الحياة العامة، ومجلساً استشارياً برئاسة وزير الثقافة، ولجنة خبراء عربية دولية لإحياء اللغة العربية كلغة للعلم والمعرفة.

وإبراز المبدعين من الطلبة فيها، وإنشاء كلية للترجمة ومعهد لتعليم العربية لغير الناطقين بها، ومبادرة إلكترونية لتعزيز المحتوى العربي على شبكة الانترنيت. مبادرة أقل ما يمكن قوله عنها إنها جاءت في الوقت المناسب، لرد الاعتبار لمكون رئيس لهوية وذاكرة وتاريخ العرب والمسلمين. فاللغة العربية اليوم تعاني من مشكلات عدة، من أهمها التهميش والتقليل من شأنها ومن قدرتها على إنتاج العلم والمعرفة.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، دعونا ننظر إلى الوضع الذي آلت إليه لغة الضاد في وسائل الإعلام. فما هي مكانة اللغة العربية في وسائل الإعلام وفي حياة المواطن العربي وفي وجدانه وطريقة تفكيره وعيشه؟

الواقع يشير إلى أزمة معقدة تنتشر بسرعة فائقة ومذهلة، والأمر خطير لعدة اعتبارات، من أهمها أن العولمة وعصر الإنترنت والمعلوماتية لا يرحم ولا يشفق، ومن لا يحصن نفسه بالعلم والمعرفة والإنتاج الفكري والأدبي، فإنه سيذوب في الآخر لا محالة، وسيصبح كاللقيط الذي لا يعرف له أصل ولا فصل ولا تاريخ ولا جذور.

وإذا نظرنا إلى إشكالية اللغة، يجب أن ننظر إليها ليس كمجرد وسيلة بريئة أو كناقل للأفكار والمعاني والتجارب، وإنما كثقافة وحضارة وذاكرة اجتماعية. اللغة هي هوية الشعب والأمة، وهي الرافد الرئيسي لتطوره وتقدمه وعلومه وابتكاراته واختراعاته. واللغة هي القاسم المشترك الذي يجمع الأمة في التعبير عن أفراحها وأتراحها، والناقل الذي يلم الشعب ويوحّده.

فإذا أردنا أن نتكلم عن إشكالية اللغة، فإنه يجب علينا أن لا نفرغها من محتواها ومن أيديولوجيتها وأبعادها المختلفة، سواء كانت دينية أم سياسية أم حضارية أم أمنية أم قومية.. والقائمة تطول. فاللغة إذن، تحدد لنا كيف نفكر وكيف نلبس ونأكل ونمرح ونمزح، فهي وعاء كبير يلمّ معاني وأفكارا ومعتقدات وسلوكيات تعكس هوية الفرد في بعده الإنساني والحضاري والثقافي والاتصالي والديني والاجتماعي.

والوضع الذي وصلت إليه اللغة العربية في وسائل الإعلام المختلفة، شيء محزن ومهين، حيث أصبح معظم هذه الوسائل، خاصة السمعية البصرية، تتفنن في استعمال اللهجات العامية، وبافتخار واعتزاز، والمبرر هو أن العامية بسيطة ومفهومة لدى الجميع. وإذا رجعنا إلى موضوع العامية بدلا من اللغة العربية الفصحى، نجد أن بعض المستشرقين والحاقدين على العرب والمسلمين، خاصة أولئك الذين استهدفوا طمس الهوية العربية ودفن الإسلام والحضارة الإسلامية، كانوا يصرّون على استعمال العامية، وهذا ما حدث على يد المنظرين للاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر.

وبذلك نجد الكثير من المستعمرين الفرنسيين في الجزائر، على سبيل المثال، كانوا يصّرون ويشجعون استعمال الدارجة والابتعاد قدر الإمكان عن اللغة الفصحى، ما جعلهم ينشرون كتبا بالدارجة ويشجعون كل من يستعمل العامية في التعليم والنشر والاتصال الرسمي، وهم في نهاية الأمر من نشروا ثقافة تزييف القرآن وتحريفه وتجريده من معانيه الصحيحة، من خلال شبكة من المشعوذين وأشباه الأئمة.

وموضوع استعمال العامية يطرح عدة تساؤلات: لماذا العامية؟ وهل الفصحى عاجزة على إيصال المعاني والأفكار للجمهور؟ وهل هي معقدة وصعبة لدرجة أن الجمهور لا يستطيع فهمها؟ وهل العامية مفهومة للجميع؟ أم إن اللغة العربية الفصحى عاجزة على مواكبة العلم والمعرفة وآخر الاكتشافات التكنولوجية؟

قبل أن نجيب على هذه الأسئلة، نرجع قليلا إلى التاريخ لنسأله عن ماضي اللغة العربية وأمجادها وإنجازاتها المختلفة. فاللغة العربية في أوج حضارة العرب وازدهارهم، لم تكن عاجزة عن نقل العلم والمعرفة والاكتشافات والإبداعات العلمية.

فهي التي نقلت العلوم الطبية عن ابن رشد وابن سينا، ونقلت رياضيات الخوارزمي، وغيرهم من العلماء الذين ترجمت أعمالهم إلى اليونانية وغيرها من اللغات الأوروبية. وللإجابة عن الأسئلة السابقة، نقول: إن اللغة العربية الفصحى قادرة على نقل أي علم وأي معرفة، في كل الأوقات والأزمنة.

فالعيب ليس في اللغة، وإنما في من يستعمل هذه اللغة، ومع الأسف الشديد وصل الحد بالكثير من الشرائح الاجتماعية في الدول العربية، إلى التنصل من الأصل ومن اللغة العربية، والتباهي باللغة الأجنبية والثقافة الأجنبية والزي الأجنبي …الخ.

وإذا نظرنا إلى وسائل الإعلام، وخاصة بعض القنوات الفضائية، نجدها بدلا من خدمة اللغة العربية ونشرها وتقويتها وتطويرها وتطويعها لمتطلبات الألفية الثالثة والعولمة، تشوّه الفصحى وتقضي على أصالتها وغناها، من خلال تحريفها وتهميشها والاعتداء عليها.

وهكذا أصبح الخطاب الإعلامي العربي من حيث اللغة، خطابا يضر باللغة العربية أكثر مما يخدمها، حيث إن القنوات الفضائية تصل إلى مئات الملايين من المشاهدين العرب، وخاصة الشباب، من خلال البرامج الترفيهية والمنوعات.. وغيرها. ولأن القناة الفضائية وسيلة اتصال جماهيري، فإنها تنمي النشء والمشاهد العربي على التخلي عن أصالته اللغوية السليمة، وتعلم وتنشر العامية التي تختلف من جهة إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى داخل نفس البلد، فما بالك إذا تعلق الأمر بـ22 دولة و380 مليون نسمة!

وإذا نظرنا إلى اللغة العربية المستعملة في المحالّ وفي الشوارع من خلال اللافتات واللوحات الإعلانية، نلاحظ تلوثا لغويا لا مثيل له، حيث استعمال الدارجة وكتابة الإعلانات بالحروف اللاتينية، واستعمال كلمات إنجليزية أو فرنسية مكتوبة بحروف عربية، ونفس الشيء نجده في الكثير من إعلانات الصحف التي لا تراعي احترام اللغة السليمة على الإطلاق.

هذا الوضع، للأسف الشديد، يساهم في نشر ثقافة العامية الدارجة، وثقافة الاعتداء على اللغة الفصحى، بحجة التبسيط والتطوير والتأقلم مع معطيات العصر. فالإعلام العربي بحاجة ماسة إلى مراجعة لغته، احتراما للهوية العربية والشخصية العربية والسيادة العربية، ومن واجبه أن يغرس في النشء روح الغيرة على ثوابته وأصالته وحبه لجذوره، لأن اللغة العربية السليمة الفصحى، هي من مكونات الشخصية العربية الأصيلة.

ولا يخفى على أحد أن اللغة العربية هي واحدة من ست لغات سائدة في العالم، ومحصنة ضد الاندثار والانهيار والانقراض. فاللغة العربية في عصر العولمة والمعلوماتية والعصر الرقمي والوسائط المتعددة، أصبحت قضية وجود وشرف.

فهي تعتبر ركنا أساسيا من أركان الأمن الثقافي والحضاري والفكري للأمة العربية والإسلامية، حاضرا ومستقبلا، فاللغة هنا ليست لسانا فحسب، وإنما هي عنوان للهوية والسيادة والحضارة والتاريخ والثقافة والأصالة.

إن اللغة هي الوجه الآخر للتفكير، وهي ليست ناقلا أو وعاءً بريئا أو مجرد مرآة عاكسة للاتصال والتواصل، وإنما هي منظومة تحمل أيديولوجية وطريقة حياة وتفكيراً وسلوكاً ومبادئ وأسساً، وهي كل متكامل لا نستطيع أن نفصله عن شخصية الإنسان ووجدانه. فأين الحكومات؟ وأين وزارات الإعلام؟ وأين المجامع اللغوية؟

وأين حركة الترجمة التي بإمكانها تدعيم وتثبيت وتقوية الحركة العلمية والفكرية في الوطن العربي، وبذلك تقوى اللغة العربية على نقل العلم والمعرفة ومواكبة التطورات العالمية؟ ماذا عن طرق وأساليب تدريس اللغة العربية في مدارسنا وثانوياتنا وجامعاتنا؟ ماذا عن الوسائل العلمية والتعليمية لتبسيط عملية التعلم والفهم والاستيعاب للطالب؟

ماذا عن استعمال الوسائط المتعددة في تدريس اللغة العربية؟ ماذا عن الإنترنت والمواقع العربية في الشبكة وحجمها ونوعيتها؟ وماذا عن البحث العلمي في الوطن العربي وإلى أي مدى استطاع ويستطيع أن يضع اللغة العربية في مصاف اللغات الفاعلة في العالم؟ أسئلة نتركها لكل مثقف ومسؤول وإعلامي غيور على لغته وعلى هويته وأصله وتاريخه.

 

Email