مرونة فلسطينية يقابلها تطرف إسرائيلي

ت + ت - الحجم الطبيعي

محير ومرتبك الوضع الفلسطيني ويدعو للأسى المناخ الشعبي العام الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة، نظراً لما يسود الساحة الفلسطينية من انقسام بات يؤثر على تفاصيل الحياة اليومية للمواطن ويؤثر سلبياً على معنوياته، واستعداده للصمود والتضحية، فضلاً عن فقدانه الثقة بالفصائل والقيادات السياسية، التي تنقله من أزمة إلى أخرى.

 لقد تلاعبت الفصائل المهيمنة على المشهد السياسي الفلسطيني بمشاعر الناس، وآمالهم، حين انتقلت بهم من خيبة أمل إلى أخرى، فيما يتعلق بإمكانية تحقيق المصالحة الوطنية واستعادة الوحدة، حتى بات الناس لا يصدقون أن مثل هذه المصالحة يمكن أن تتم، فالممارسات اليومية لأنظمة الحكم المختلفة، تقدم المزيد من الشواهد والإثباتات المادية على أن المصالح الفصائلية الفئوية هي التي لا تزال تسيطر على الفضاء العام، بعكس الادعاءات التي تتحدث عن أهمية الوحدة الوطنية، والحاجة الماسة لاستعجال المصالحة.

إسرائيل في هذه الظروف تشعر بسعادة بالغة، إذ أنها تواصل تنفيذ مخططاتها التهويدية والاستيطانية، وتواصل عدواناتها، وقمعها المستمر للشعب الفلسطيني، ومصادرتها للحقوق الوطنية ابتداءً من موضوع الدولة الفلسطينية إلى موضوع القدس، وموضوع اللاجئين، بدون أن تتوقع ردعاً قوياً لا من الفلسطينيين ولا من قبل المجتمع الدولي، أو النظام العربي، والسبب ضعف الإرادة الفلسطينية على مستوى القيادات الفلسطينية الملتزمة ببرامجها الفئوية كأولوية على حساب البرامج والأهداف الوطنية، ما يؤدي إلى تعطيل المصالحة. إسرائيل لا تزال تمسك بزمام المبادرة.

وهي الأقدر على التحكم بمصير الفلسطينيين، والمحافظة على الانقسام الذي اعتبرته أحد أهم ثلاث إنجازات حققتها منذ عام 1948، ليس لهذا وحسب، بل إن إسرائيل مرتاحة لغياب الاستراتيجيات الفلسطينية، والخيارات، التي تنطوي على تحديات جادة وفاعلة في التصدي لهذا الاحتلال وسياساته الإجلائية الإحلالية. لم يعد المواطن الفلسطيني يفهم ما الذي تسعى إليه القيادات السياسية، ولا كيف تدير صراعها مع الاحتلال وهو لا يفهم ولا يتفهم كيفية التعاطي مع الخيارات، وعناصر القوة المتوفرة مهما تواضعت لدى الطرف الفلسطيني.

قبل أن يجدد مؤخراً بنيامين نتانياهو لاءاته الثلاث، لا للعودة إلى حدود الرابع من يونيو، لا لتفكيك المستوطنات، لا لعودة اللاجئين، كان الرئيس محمود عباس قد أعلن أن كل الخيارات مفتوحة أمام الفلسطينيين باستثناء خيار حل السلطة الوطنية، وخيار سحب الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، حين يتطوع الفلسطينيون لإسقاط أهم وأخطر الخيارات من حساباتهم، لا يتبقى لإسرائيل ما تخشاه، والأرجح كما نلاحظ أن تستمر الحكومة الإسرائيلية في تطرفها وعنجهيتها، بدون أن تلتفت خلفها.

قبل إسقاط خياري حل السلطة وسحب الاعتراف بإسرائيل، كان الرئيس عباس قد أسقط ومنذ انتخابه قبل سبع سنوات، خيار المقاومة المسلحة، المسألة هنا ليست مسألة مبادئ، إنما فعل سياسي، قد نتفق معه حين يرى أولوية المقاومة الشعبية والسياسية على المقاومة المسلحة، بدون إسقاط هذا الخيار من حيث المبدأ، باعتباره حقا تصونه المواثيق الدولية للشعوب المحتلة أراضيها.

في لقاء سابق بين الرئيس عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، اتفق الطرفان على تبني خيار المقاومة الشعبية كأولوية، الأمر الذي أثار ردود فعل لدى قيادات حمساوية وغير حمساوية، رغم أن الواقع يؤكد بأن هذا الخيار، يفتقد إلى المبادرة، ويغيب فعلياً في الممارسة، إلا حين يكون في إطار رد الفعل المحسوب والمحدود على عدوان ترتكبه إسرائيل ضد قطاع غزة، ويكاد هذا الرد يقتصر على إطلاق الصواريخ.

معلوم أن القيادات السياسية الفلسطينية على جانبي خط الانقسام، تتعرض لضغوطات، أو تخضع لحسابات معينة، تعطيها الحق في المناورة، لتجنب الأسوأ، فالإدارة الأميركية تعمل مع الرباعية بضبط سقف المواقف السياسية للقيادة الفلسطينية الرسمية، إلى ما دون استفزاز إسرائيل أو الخروج من نفق العملية السلمية ومقتضياتها، ومعلوم أيضاً أن حركة حماس تراهن على الربيع العربي والشتاء الإسلامي، وعلى نحو خاص تطورات الوضع السياسي في مصر، الأمر الذي يولد لديهم آمالاً عريضة بالنسبة لثبات وتطور تجربتهم في قطاع غزة، وتعميمها على الوضع الفلسطيني كله في الزمن اللاحق.

إذا كانت هذه الحسابات تحول دون، أو تؤدي إلى، تأجيل المصالحة الفلسطينية فإن السؤال الموجع هو: لماذا يتم سلفاً، وبدون ثمن أو مبرر، إسقاط الخيارات الأكثر أهمية وتأثيراً، حتى لو لم تقرر القيادة الأخذ بها؟ لماذا لا يجري التكتم على هذه الخيارات أو حتى توظيفها للضغط في إطار التهديد بها دون اللجوء إليها؟

إن استمرار القيادة السياسية في نهج تأكيد التزامها المرونة، والتمسك بذات المحددات والخيارات السياسية، التي لم تجد نفعاً حتى الآن لا في إرغام إسرائيل على تغيير سياساتها وممارساتها ومواقفها ولا في إثارة اهتمام الولايات المتحدة والرباعية الدولية إلى الحد الذي يدعوها للقيام بتحرك فعلي ضاغط على إسرائيل، إن هذا النهج لا يمكن أن يصل إلى نتيجة في صالح الفلسطينيين.

لا يظهر من الخيارات الفلسطينية سوى مواصلة التوجه نحو الأمم المتحدة ومؤسساتها كما حصل خلال المرحلة السابقة، حيث تم اللجوء إلى مجلس حقوق الإنسان بشأن المستوطنات، وإلى اليونسكو حيث حقق الفلسطينيون فوزاً وإلى محكمة جرائم الحرب حيث رد أوكامبو الطلب الفلسطيني، وقبل ذلك طرح ملف عضوية فلسطين في الأمم المتحدة.

الملفات الفلسطينية كثيرة التي يمكن وينبغي التوجه بها إلى المؤسسات الدولية والرأي العام العالمي، لكن كل ذلك وبغض النظر عن النتائج المتحققة فعلياً، لا يكفي لإرغام إسرائيل على التحول عن سياساتها التي تمعن في مصادرة الحقوق الفلسطينية، وتقويض الأرضية التي يمكن أن تقوم عليها رؤية الدولتين.

Email