قصيدة تحدث ضجة سياسية

ت + ت - الحجم الطبيعي

دولة تدعي الديمقراطية واسمها إسرائيل، لا تريد أن تسمع رأياً آخر، حتى لو كان هذا الرأي من أصدق أصدقائها، وهي تضجر من سماعه حتى لو كان على شكل قصيدة. وهي ـ أي إسرائيل ـ تضع حدوداً لأصدقائها حول ما يمكن أن يقال عنها، وهو أقل القليل، أما ما عدا ذلك فالتهمة جاهزة وهي معاداة السامية.

وهي تهمة مطاطة وسلاح للتشهير، يؤلم كثيراً أولئك المشاهير في الديار الغربية، سواء كانوا في الولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا. وهذه التهمة ألصقت مؤخراً بأحد أبرز شعراء وأدباء ألمانيا فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو غونتر غراس. ولم تمنع سني عمر غراس الطويلة، حيث يبلغ من العمر أربعاً وثمانين سنة، ولا حصوله على جائزة نوبل في الآداب في العام 1999، من أن يوصم بأنه "معاد للسامية" وتصدر إسرائيل في حقه منعاً من دخول أراضيها (وهي بالأحرى أراض عربية محتلة تم تشريد السواد الأعظم من شعبها)، هذا عدا عن التعليقات الكثيرة من أبرز رموز النظام في إسرائيل، وعلى رأسهم رئيس وزرائها نتنياهو.

أما جريرة شاعرنا غراس فإنها تكمن في قصيدة كتبها مطلع الشهر الجاري، وعنوانها: "ماذا يجب قوله"، سطر فيها ما كان يدور في خاطره منذ فترة، وقال فيها ما كان يدور "كهمهمات" في نفوس المثقفين الألمان، أو ما يتداولونه باستحياء في مجالسهم الخاصة، كما يورد أحد كتاب الجريدة المرموقة ديرشبيغل (6/4) واسمه جاكوب أوغستين، بعنوان موح: "لماذا نحن بحاجة إلى نقاش مفتوح حول إسرائيل؟"! وما قاله غراس هو رأيه في امتلاك إسرائيل لقنابل نووية وسكوت العالم عن ذلك.

يقول (ونحن نقتطف أبياتاً منها وعتبنا على المترجمين):

لماذا أمنع نفسي من تسمية ذلك البلد الآخر

الذي يمتلك ومنذ سنوات، بسرية، قدرات نووية متنامية،

لكن خارج نطاق السيطرة،

لأنه لا توجد إمكانية لإجراء مراقبة؛

إسرائيل التي أتضامن معها وأريد أن أبقى كذلك.

لماذا أقول الآن فقط،

كبيراً في السن، وبآخر قطرة حبر:

إن القوة النووية لإسرائيل خطر على السلام العالمي

الهش بطبيعته؟

لأنه ينبغي أن يُقال،

قبل أن يفوت الأوان.

وما أسرع ردة الفعل الإسرائيلية، التي تبارى سياسيوها اليمينيون في دغدغتهم لمشاعر اليهود بشكل عام والإسرائيليين بشكل خاص، فنتنياهو ذكره بالهولوكوست وبماضيه، حيث عمل في قوات "أس أس" الهتلرية في الحرب العالمية الثانية، وهي حقيقة اعترف بها غراس منذ مدة طويلة. أما وزير الخارجية المتعصب ليبرمان، فقد وصف القصيدة بأنها "تعبير عن روح الأنانية التي يتميز بها المثقفون الأوروبيون، الذين لا يتورعون حتى في التضحية بالشعب اليهودي عبر إثارة النعرات المعادية للسامية في سعيهم إلى الشهرة ولبيع مزيد من كتبهم"!

لكن العجيب أنه لا نتنياهو ولا وزير خارجيته ليبرمان، أنكرا أن إسرائيل تمتلك ترسانة من السلاح النووي، وأن هذا السلاح النووي قد يكون تهديداً للسلام العالمي!

أما وزير داخلية إسرائيل فقد أصدر منعاً لغراس من دخول البلاد، التي دأب غراس على زيارتها. ومنع إسرائيل لمن ينتقدها من دخول البلاد ليس غريباً، حتى لو كان من أبناء جلدتها، إذ هي تعتبر أن كل يهود العالم لهم الحق في حمل جنسيتها والإقامة فيها. فقد منعت أستاذ اللغويات المشهور ناعوم شومسكي من دخول إسرائيل قبل سنتين، وذلك لمواقفه المعروفة.

وأيضاً طردت ميريد موغوير الإيرلندية الحائزة على جائزة نوبل في أكتوبر من العام 2010، وذلك لقيامها بمقابلات مع نشطاء للسلام في الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني.

وقد أفلت العازف دانيل بيرنبويم من عقاب إسرائيل (تقول دير شبيغل في مقالة أخرى 4/9)، حينما خرق أحد "محرماتها" وهو عزفه لمقطوعات الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر المحرمة موسيقاه في إسرائيل، حيث تعتبره معادياً للسامية، رغم أنه عاش في القرن قبل الماضي (1813 1883). وكان فاغنر ينتقد الموسيقيين الألمان اليهود في زمانه، لأن موسيقاهم لا تتماشى مع الذائقة الألمانية ويعتبرها دخيلة، لكنه كانت له صداقات كثيرة مع اليهود. ومن سوء حظه أن هتلر كان معجباً بموسيقاه، وهذه ربما تكفي كتهمة بمعاداة السامية! إن إسرائيل تخشى كلمة الحق، لأنها بنيت على باطل.

وسياستها تتكشف للعالم كل يوم، فهي احتلت أرض شعب وادعت أنها أرضها، وشردت الآلاف المؤلفة منهم، ثم حينما قرر أصحاب الأرض الشرعيون اقتسام أرضهم والتنازل عن أكثر من ثلاثة أرباعها، قررت هي، ولأنها قوية ومدعومة، قضم البقية الباقية وتأخير عملية السلام بشتى الذرائع. وإسرائيل ضد الأصولية الإسلامية لأنها تعتبرها متطرفة وتريد أن تدمر إسرائيل حسب زعمها، لكن من يحكمها هم الأصوليون اليهود الذين يرون في طرد الفلسطينيين واجباً دينياً. وبتنا نرى حكومة إسرائيلية متطرفة، تأتي لتتلوها حكومة أشد تطرفاً منها. ما كشفته قصيدة الألماني غراس، هو أن ثمة يقظة بين مثقفي الغرب حول إسرائيل ونواياها الحقيقية، وزيف دعايتها التي تركز على أنها دولة تبتغي السلام.

 

Email