التقاليد والسياسات داخل العقل الإيراني

ت + ت - الحجم الطبيعي

بديهي القول إن حركة الدول داخل معمار النظام الدولي، تتحدد وفق مفاعيل ومؤثرات معينة، بعضها ثابت لا يتغير، والآخر مرن يتحرك بالتوازي مع حركة التاريخ البطيئة الضخمة، أو مع الأحداث الآنية سريعة التشكل والزوال، وتطل الجغرافيا برأسها كواحد من أهم تلك المفاعيل والمؤثرات. يقول شارل ديغول إنه عندما يريد التحدث في السياسة، فإنه يبدأ بالنظر أولاً في خريطة جغرافية، ويقول فرنسي آخر هو المؤرخ فرديناند بروديل «إن الخرائط هي التي تروي القصة الحقيقية».

ولكي نفهم إيران، يجب أن نعي ضخامة مساحة ذلك البلد التي تبلغ 1,684,000 كلم مربع، أي أن مساحتها تساوي تقريباً مساحة أوروبا الغربية، ثم نفهم النتائج المترتبة على موقع إيران الممتد كنقطة وصل بين أكثر من إقليم جغرافي/ سياسي، كغرب آسيا، والشرق الأوسط العربي، وهضبة الأناضول (آسيا الصغرى)، وآسيا الوسطى والقوقاز من ناحية، والخليج العربي وحوض المحيط الهندي، ما جعل إيران ساحة للتنافس بين القوى الكبرى خلال النصف الأول من القرن العشرين.

ثم أصبحت منطقة عازلة (Buffer Zone) استخدمها المعسكر الغربي للحؤول بين التوسع السوفييتي ومياه الخليج الدافئة الغنية بالنفط. لكن توافقات الحرب الباردة تلك، تعرضت لهزة فادحة مع الثورة الإيرانية عام 1979، التي خلطت أوراق المنطقة كلية، وأعادت تركيب ساحات وأحلاف الصراع الإقليمية والدولية، وأدت أيضاً إلى ارتفاع منسوب التطرف الديني في المنطقة، وكانت بحق فاتحة لعصر الجهادية الإسلامية على الجانبين الشيعي والسني.

لا يكتمل فهم التقاليد الجيوسياسية الإيرانية، إلا بتفحص وقع الملمح الحاكم في جغرافية إيران، وهو الجبال. الجبال التي منحت إيران وضعاً فريداً في منطقتناً، فقد وفرت الحماية والعزلة الطبيعية اللازمة لنشأة واستمرار وتطور هوية ثقافية فارسية قوية، ومن ناحية أخرى منحت تلك الجبال إيران حدوداً دولية ثابتة منذ القدم، عكس غالبية بلدان المنطقة. ولا نستطيع أن نفتح الأبواب المؤدية لفهم الروح الإيرانية، دون أن نبصر الأثر البالغ لتلك الجبال جيوسياسياً وثقافياً وتاريخياً.

تستطيع أن تقتفي البدايات الأولى للفرس كعرق وشعب، من استيطانهم لسلسلة جبال زاغروس التي تمتد من شمال إيران حيث تلتقي أرمينيا وتركيا، حتى مضيق هرمز جنوباً. ومن المدهش هنا أن نرى كيف وفرت هذه الجبال الوعرة، حماية دائمة لإيران من أي قوة تنشأ في آسيا الوسطى (رومانية أو عثمانية ـ تركية)، بل إن ترسيم الحدود الإيرانية ـ التركية الحالية، والذي يعود لاتفاقية قصر شيرين بين الدولتين العثمانية والصفوية عام 1639، جاء متوافقاً مع المنحنى الطبيعي لجبال زاغروس التي تفصل كشفرة حادة بين البلدين.

لكن لا تلبث جبال زاغروس أن تنزوي غرباً عند بداية الحدود الإيرانية ـ العراقية، تاركة العراق أرضاً سهلية مسطحة مفتوحة، في مقابل الجانب الإيراني الجبلي الوعر. وتستمر جبال زاغروس على طول الجانب الإيراني من الحدود العراقية حتى بدايات إقليم خوزستان الجنوبي، الذي تسكنه غالبية عربية (وليست فارسية)، ويتميز بوجود جل احتياطيات النفط الإيراني.

ورغم أن الإقليم يتصف بأرضه السهلية التي يسهل نظرياً عبورها على أي جيش غازٍ، فإن طبيعة الأرض المستنقعية الصعبة تجعل مهمة حماية الإقليم سهلة على الدولة الإيرانية، وتصعب على أي قوة غازية احتلال هذه الأرض الثمينة، ولعل أبلغ مثال على ذلك محاولة عراق صدام حسين التي لم يكتب لها النجاح في السيطرة على هذا الإقليم.

هناك أيضا سلسلة جبال البرز، التي تمتد شمالاً بمحاذاة بحر قزوين حتى الحدود الأفغانية، ثم تنحرف جنوباً بموازاة الحدود الباكستانية حتى تتصل ببحر العرب. هذه الجبال وفرت لإيران حماية طبيعية وغير مكلفة، من أي عدوان أو اختراق للقوى المسيطرة على سهوب آسيا الوسطى، ونعني هنا روسيا القيصرية ومن ثم الاتحاد السوفييتي.

كل هذا يعني أن احتلال إيران صعب ومكلف جداً، والتحكم فيها أصعب وأكثر تكلفة. فالجبال توفر للإيرانيين حاضنة دفاعية استثنائية، كما تعقد على أي قوة خارجية نية ضرب إيران، نظراً لامتدادها ومساحتها الضخمة ووعورة تضاريسها، وهو ما قد يفسر، جزئياً، تردد الولايات المتحدة المزمن في احتلال إيران، أو حتى ضربها.

إيران بلد جبلي ضخم يصل عدد سكانه إلى 75 مليون نسمة، تعيش أغلبيتهم الساحقة في الجبال أو في المدن الموجودة على أقدام الجبال. ودائماً ما اتصفت المناطق الجبلية بفقرها وصعوبة تنميتها اقتصادياً، لارتفاع تكاليف النقل والمواصلات والبنية التحتية بشكل خيالي، ما يصعب إقامة قاعدة صناعية محلية مستدامة، والأهم من هذا أنه يقلل من تدفق الاستثمار الأجنبي نحو إيران، وليس من الغريب إذاً، أن يعاني الاقتصاد الإيراني بشكل دائم، وبالذات صناعة النفط، من نقص السيولة والتكنولوجيا.

ولما كان اقتصاد إيران مغلقاً أمام العالم الخارجي ويواجه مشكلات جدية في الداخل، فإن هذا أدى إلى تقوية قبضة الدولة الإيرانية على مفاصل الحياة الاقتصادية، ما يعني سهولة قمع الحركات المعارضة، وصعوبة التمرد على الحكومة المركزية في طهران (تهران)، رغم أن العلاقة تاريخياً بين الحاكم والمحكوم في إيران، اتسمت دائماً بالصعوبة والاحتجاج والتذمر من الجانب الأول ضد الثاني.

ومثلما وفّرت الجبال الحماية والعزلة الطبيعية اللازمة للثقافة الفارسية في مواجهة الخارج، فإن هذا أيضاً يعني ازدهار الأقليات غير الفارسية، حيث تضم إيران أعداداً كبيرة من السنة، رغم أنها بلد ذو صبغة وأغلبية شيعية واضحة، كما أن هناك تنوعاً عرقياً هائلاً داخل المجتمع الإيراني، إذ يقدِّر البعض تعداد الأقلية الأذرية التركية داخل ذلك البلد، بما يتراوح بين 15 إلى 20 مليون نسمة.

هذا التنوع العرقي والمذهبي، شكل ولا يزال هاجساً متجدداً لدى الحكومة المركزية في طهران، من حيث سهولة استغلاله من الخارج، ما أدى إلى اعتماد طهران على القمع الشديد الذي تمارسه أجهزة الأمن والاستخبارات الداخلية ضد أي حركة انفصالية. وهذا الاعتماد المفرط على أجهزة الأمن يُعَد قاعدة اتصفت بها الدولة الإيرانية تاريخياً منذ أيام الإمبراطورية الفارسية، حيث يتم السماح للأقليات بالعيش داخل التركيبة الفارسية، مع سحق أي بادرة تمرُّد أو عصيان بلا رحمة.

Email