أصل الأزمة وآفاق معالجتها...

ت + ت - الحجم الطبيعي

الأزمة التي يعاني منها سكان قطاع غزة منذ سنوات على صعيد نقص التيار الكهربائي، وتفاقمت خلال الشهرين الأخيرين، بسبب النقص الحاد في إمدادات الوقود بكل أنواعه، تقدم نموذجاً واضحاً، وفجاً، لأبعاد وآثار الانقسام الفلسطيني ولأبعاد التنافر بين برنامجين ورؤيتين، لم تنجح الحوارات والتوسطات التي جرت خلال السنوات المنصرمة، في أن تجد لها حلاً توافقياً.

حركة حماس تصر على أن الأزمة سياسية، وهي كذلك، رغم تداعياتها الاجتماعية والاقتصادية وتأثيراتها العميقة على الحياة اليومية لسكان القطاع، منذ وقع الانقسام في الرابع عشر من يونيو عام 2007، وما اتصل بالرؤى السياسية والتطلعات التي وقفت وراء الانقسام، والأوهام التي ولدها هذا الانقسام بشأن إمكانية فوز حماس، بإقامة وترسيخ كيانها في القطاع.

ومن الواضح أن هذه الأوهام، قد تزايدت مع الربيع العربي، وتداعياته، التي كان من بين أهم نتائجها، فوز الإسلاميين في الانتخابات التي جرت في كل من المغرب وتونس وعلى وجه الخصوص مصر، وحملت معها وعوداً بإمكانية كسر الحصار المفروض على القطاع، ومعالجة احتياجاته المادية، بمعزل عن الاحتلال، وعن السلطة الوطنية الفلسطينية.

وربما كان هذا الأمر واحداً من أسباب تعطل المصالحة الفلسطينية، وذلك أن مثل هذه التطورات السياسية في الجوار العربي، قد ولدت، أو من شأنها أن تولد، لدى بعض قيادات حماس، بأن المعادلة التي انبنت عليها اتفاقيات المصالحة، لم تعد مناسبة، وأن من الممكن إعادة صياغتها بطريقة أو بأخرى، لتلبي معادلة حماس المنتصرة وفتح المهزومة، والتي عليها أن تقدم المزيد من التنازلات.

لا تطرح قيادات حماس هذه المعادلة علنياً وبوضوح، لكن الإرباك والتناقض الذي ظهر على خلفية توقيع رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل على إعلان الدوحة، إلى جانب الرئيس محمود عباس، وما جاء بعد ذلك، يدل على هذا الاستنتاج.

في الواقع، تدرك قيادة حماس أن استطالة أزمة الكهرباء والوقود وغياب الأفق الواعد بإمكانية حلها قريباً، يشكل إساءة كبيرة للحركة، ويرسم علامة استفهام كبرى حول قدرتها على إدارة القطاع، فضلاً عن أن ذلك يساهم بشكل واضح في تجفيف شعبية الحركة في القطاع.

الأزمة باتت تضرب مفاصل الحياة اليومية للمواطن، وتؤثر على لقمة العيش، فالسيارات تصطف طوابير طويلة ولساعات طويلة أمام محطات الوقود، فيما لم تعد تعمل مولدات الكهرباء التي كانت تملأ بضجيجها ودخانها الحارات، والشوارع، وحتى لم يعد ممكناً استخدام الغاز للإنارة بسبب النقص الحاد في إمداداته، وشيئاً فشيئاً يتحول الناس نحو استخدام الشموع التي لا يمكنها أن تعوض الانقطاعات الطويلة والمبرمجة للتيار الكهربائي، مما يضطر الناس، للخلود إلى النوم مبكراً، موعودين بالمزيد من الكوابيس.

وإذا كان من الممكن أو من الصعب المراهنة على تكيف المواطن مع هذا الوضع لفترة طويلة أخرى، فإن قلة الحديث عن الأزمة وغياب دور الإعلام عنها، لا يعني أن الأزمة قد تراجعت، أو أن مفاعيلها السياسية والاجتماعية قد توقفت عن الفعل، فالشارع الفلسطيني يعيش حالة غليان، قد لا تفلح حركة حماس من منع انفجار في أية لحظة.

والحقيقة أن كل المحاولات السابقة لمعالجة أو تخفيف الأزمة، عبر حوارات متكررة ولم تتوقف مع مصر، لم تصل إلى أي نتيجة حتى الآن، سوى إطلاق المزيد من الوعود، التي لم يعد المواطن يثق بها. مصر بما هي فيه وعليه، تدرك بعمق، الآثار والأبعاد السياسية التي تترتب عن تحملها المسؤولية في حال وافقت على تعويض قطاع غزة، بإمدادات الطاقة والوقود، فهي تدرك تماماً أن إسرائيل تدفع بقطاع غزة حتى انفصاله، نحو مصر، من واقع استهدافها لتأييد الانقسام، ومنع قيام دولة فلسطينية، والتنصل من مسؤوليتها القانونية والسياسية والإنسانية كدولة احتلال عن القطاع.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن مصر تعاني من نقص الوقود لمواطنيها، ومن يذهب إلى القاهرة سيلاحظ طوابير السيارات، على محطات إمداد الوقود، وذلك بسبب عمليات التهريب الواسعة التي تتم عبر الحدود مع ليبيا، ومع قطاع غزة من خلال الأنفاق، خصوصاً وأن أسعار الوقود في مصر رخيصة بسبب الدعم الحكومي لها.

تهريب الوقود من مصر عملياً يكلف الخزينة المصرية مئات ملايين الجنيهات، فالفارق كبير بين أسعاره الداخلية، وأسعاره الدولية، مما يعني أنه حتى في حال تسلم الإخوان المسلمين سدة الحكم والقرار في مصر، فإنهم من غير المرجح أن يتساهلوا مع إهدار هذه الأموال الطائلة، ذلك أنهم إن أرادوا أن ينجحوا في الحكم فإنهم سينجحون في مصر أولاً وليس في قطاع غزة أو في ليبيا.

خطاب حركة حماس إزاء أسباب الأزمة فيه ارتباك شديد، ففي البداية صبت بعض قيادات الحركة جام غضبها على جهاز المخابرات المصرية، التي اعتبرته المسؤول عن تعطيل إمكانية اتخاذ مصر قراراً بإمداد القطاع بالوقود والتيار الكهربي، ثم تحول الاتهام نحو السلطة الفلسطينية، ولاحقاً نحو إسرائيل، قبل أن يستتر هذا الارتباك على اعتبار إسرائيل كدولة احتلال، بأنها التي تتحمل المسؤولية بسبب حصارها للقطاع، وفي الوقت ذاته ظلت المحاولات لمعالجة الأزمة بهدوء مع مصر.

والأكيد أنه مهما مر من زمن، ومهما تنوعت الاتهامات، وتنوعت محاولات معالجة الأزمة، فإنه لا مناص من الاعتراف بأن الانقسام الفلسطيني، بما يعكس من رغبة إسرائيلية في تعميقه وتأييده، هو المسؤول عن غياب الحل، وأن هذا الحل مرهون بالمصالحة الفلسطينية، الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في الحسابات والرؤى، التي كانت وما تزال حتى اللحظة ترى إمكانية المراهنة على وجود كيانين فلسطينيين واحد في الضفة والآخر في قطاع غزة.

وإذا كان من غير المحتمل أن نقف على اعتراف علني صريح بهذه الحقيقة، فإن التعبير عن ذلك يتم عن طريق تزايد الدعوات لتنفيذ إعلان الدوحة، ومطالبة الرئيس محمود عباس بتشكيل الحكومة، من قبل قيادات سبق لها أن سجلت اعتراضها على إعلان الدوحة، كما هو الحال بالنسبة لنائب رئيس حركة حماس الأخ موسى أبو مرزوق.

وهكذا نتوقع أن تتكثف الحملة التي تدعو لإنجاح المصالحة، وأن ترتفع نبرة المطالبة بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه، الأمر الذي تجلى في تقديم حركة حماس مبادرة تم الإعلان عنها سياسياً وإعلامياً خلال الأسبوع الماضي، في انتظار ما يمكن أن تسفر عن هذه المبادرة من معاودة تنشيط اللقاءات بين عباس ومشعل.

مرة أخرى يتأكد أن هذه الأزمة، والأزمات الأخرى التي يعاني منها المواطن الفلسطيني، لا يمكن ولا سبيل لمعالجتها، إلا في إطار المصالحة الوطنية، والنظام السياسي الفلسطيني، هذا فوق ما هو مؤكد من أن مواجهة التحديات والمخاطر السياسية الناجمة عن مخططات الاحتلال، تتطلب وحدة وتقوية العامل الذاتي الفلسطيني أولاً، قبل البحث عن مصادر أخرى للقوة عند العرب أو على مستوى المجتمع الدولي.

 

Email