الحزب الشيوعي السوداني: صفحة تاريخية (2-2)

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما مستقبل الحزب الشيوعي في السودان؟ لعل الأكثر إفادة هو توسيع الصيغة ليكون التساؤل: ما مستقبل التنظيمات الشيوعية في العالم عامة والعالم العربي بصفة خاصة؟

الاعتقاد السائد هو أن هذا التساؤل الكبير قد أجيب عليه بالفعل، عند انهيار المعسكر السوفييتي قبل ما يقارب ربع قرن. حينئذٍِ - أو بعد الحدث بقليل - أصدر الفيلسوف الأميركي المعاصر فرانسيس فوكوياما (من أصل ياباني)، حكماً من كلمتين: «نهاية التاريخ».. أي أنه بزوال منظومة المعسكر الاشتراكي السوفييتي انتهت الاشتراكية كأيديولوجية، وبذلك دخل العالم عصراً جديداً ينفرد فيه النظام الرأسمالي بالأحادية المذهبية الاقتصادية.. وبذلك انتهى التاريخ البشري، إذ لم يعد هناك مذهب اشتراكي يناوئ الرأسمالية.

لكن فوكوياما تصدى له فيلسوف أميركي آخر، هو جون غالبيرث الذي قال: أجل، انتهى المعسكر الاشتراكي السوفييتي كتجسيد للشيوعية الماركسية، لكن الشيوعية كمذهب نظري تبقى على قيد الحياة الفكرية. بل وذهب غالبيرث أبعد من ذلك، قائلاً إن الرأسمالية ليست مذهباً فكرياً كالاشتراكية؛ النظام الرأسمالي - يقول هذا الاقتصادي الأميركي - يقوم على فكرة الربح المادي: تحقيق الحد الأقصى من الربح في أي تعامل بشري، مع تقليص التكلفة إلى أدنى حد لها. وعلى هذا النحو فإن النظام الرأسمالي ليس ابتكاراً فلسفياً مذهبياً، بل هو مجرد تطبيق عملي للغريزة الإنسانية التي تنزع بطبيعتها إلى الاستحواذ الأناني.

ويضيف غالبيرث قائلاً: إن الاشتراكية بمذاهبها المختلفة، وسواء أكانت ماركسية أو غير ذلك، جاءت كتنظير للخير الجماعي عوضاً عن النزعة الفردية.

مما لا شك فيه أن الحزب الشيوعي السوداني تابع المعركة الفكرية بين فوكوياما وغالبيرث، ومن المؤكد أن قيادة الحزب تساند غالبيرث في انتصاره للمبدأ الاشتراكي. مع ذلك فإن على الحزب أن يعي أمرين:

أولًا؛ أنه منذ منتصف القرن التاسع عشر - حين وضع كارل ماركس نظريته ـ وحتى اليوم، جرت في العالم متغيرات تتطلب مراجعة الماركسية بالحذف أو الإضافة، بما يتلاءم مع ظروف التطبيق.. لكن بالطبع دون مس بالمبدأ الاشتراكي الأساسي. وهنا فإن على قيادات الأحزاب الشيوعية أن تتوقف عند تجربة الصين، وما هي الإضافات أو التعديلات التي أجراها ماو والقادة الصينيون الآخرون، لتتلاءم الشيوعية مع ظروف الصين.

«ملكية الدولة لوسائل الإنتاج» هي المرتكز الاقتصادي الأساسي المنصوص عليه في صدارة بنود النظرية الماركسية، وهو المبدأ الذي يتناقض بالتمام مع مبدأ «سيطرة اقتصاد السوق الحر»، الذي تقوم عليه البنية التحتية الاقتصادية في النظام الرأسمالي.

وتساءل القادة الصينيون: هل من الممكن أن تستعير الصين مبدأ اقتصاد السوق الحر لتطبيقه داخلياً، بهدف بث روح المنافسة الصحية بين مديري المصانع التابعة للدولة.. لكن دون أن تفقد الدولة سيطرتها المركزية على المصانع؟

نعم.. هذه كانت الإجابة التي توصل إليها القادة الصينيون، وبذلك ابتكرت الصين مبدأ اقتصاد السوق الحر «الاشتراكي»، واقتحمت به المنافسات في الأسواق العالمية، حتى أصبحت الدولة الأولى في العالم من حيث إنتاج السلع المصنعة.

ما يمكن استخلاصه من ذلك، هو أن على الحزب الشيوعي السوداني ألا يتعامل مع نصوص النظرية الماركسية اللينينية وكأنها نصوص مقدسة غير قابلة للتعديل. ومن ناحية أخرى، فإن على الحزب ألا يفقد بوصلته الأيديولوجية في سياق تحليله للأحداث والتنظيمات.

ولنضرب مثلًا: لقد عقد الحزب تحالفاً استراتيجياً مع حركة التمرد الجنوبية في السودان التي كان يتزعمها جون قرنق. وانطلاقاً من التحليل الماركسي، فإنه اعتبر الصراع المسلح الذي كان يدور بين الجنوب والشمال، صراعاً طبقياً، وبناءً على هذه الرؤية الأيديولوجية صار الحزب حليفاً لحركة قرنق.

كان هذا خطأ واضحاً وفاضحاً، فأجندة التنظيم الجنوبي كانت موجهة ضد الهوية العربية الإسلامية للشمال السوداني. وتلك كانت رؤية عنصرية، أبعد ما تكون عن صراع طبقي. لقد أراد الحزب أن يستقطب دعماً من جماعة مسلحة لتقوية موقفه كتنظيم معارض للنظام الحاكم، مضحياً بذلك بدليله الأيديولوجي. وهذا هو فقدان البوصلة بعينه.

فقدان البوصلة يعني فقدان الرؤية الاستراتيجية، الذي يقود إلى التخبط وزوال الهوية السياسية. وبمقدار الفشل في استرداد هذه الهوية، فإن الحزب الشيوعي السوداني يفقد المستقبل.

 

Email