داخل العقل الإيراني (الجمع بين التناقضات)

ت + ت - الحجم الطبيعي

عبر 2500 سنة من تاريخهم المتعاقب والمستمر طور الإيرانيون قدرة فريدة على التعايش والتوفيق بين متناقضات والتباسات عديدة لا تتآلف فيما بينها بسهولة، وقد يكون سبب رئيس لذلك هو تعرضهم لموجات متتالية من الغزو الأجنبي الذي جلب معه حكام متجبرين عاملوا رعاياهم الإيرانيين بقسوة وشدة، على أن إيران استطاعت في كل مرة أن تهضم التأثيرات الوافدة عليها، وأن تعيد صياغة كل ديانة أو مذهب أو فكرة أو لغة...الخ في قالب إيراني خاص.

وقد يكون هناك سبب آخر كامن وراء هذه القدرة الفارسية على الجمع والتعايش مع التناقضات الصعبة، هذه القدرة التي تحتل حيزاً مهماً في العقل الإيراني، وفي نظرة الإيرانيين لأنفسهم وللآخرين والعالم، هذا السبب ينبع من الديانة الإيرانية القديمة التي كانت سائدة لألف عام تقريباً قبل الإسلام، والتي استمرت حية ومؤثرة لدرجة أن العديد من الباحثين والمؤرخين اعتبروا الإسلام الإيراني استمراراً لما سبقه، في الزرادشتية يستوي الخير والشر بشكل مطلق ومتكافئ، وحيث يتحول العالم إلى ساحة قتال متوازن ومتعادل بين ثنائي قوى النور والظلام، لا ينهيه إلا خروج «سوشيانس» مخلص ومنقذ آخر الزمان في تلك العقيدة.

وعلى أية حال فإن هذا التناقض يعيد إنتاج نفسه مراراً وتكراراً وبأشكال ومضامين متنوعة على مختلف مستويات التعاطي السياسي والفكري والديني. وسيكون هذا التناقض أو الازدواجية أو الثنائية، العدسة التي يرى الإيرانيون من خلالها وجودهم كأمة، حيث الخير (إيران) يواجه الشر (الآخر) بشكل دائم ومستميت.

يجب أن نذكر في هذا السياق أن هناك أسباباً عملية وراء نزوع النفس الإيرانية نحو التناقض، فبعد الفتح العربي لبلاد فارس في القرن السابع الميلادي والذي أحدث هزة حضارية ونفسية عنيفة داخل المجتمع الإيراني، كان على الإيرانيين أن يوازنوا بين دخولهم الكثيف في الدين الجديد وحمل رسالته وبين عنادهم في الاحتفاظ بلغتهم (عكس مصر وبلاد الشام وغيرها من البلدان المفتوحة التي فقدت لغاتها الأصلية وقبلت الإسلام والعروبة معاً، قبلت إيران الإسلام ورفضت العروبة) والفخر بثقافتهم ما قبل الإسلام التي سينظر لها المسلمون في أفضل الحالات على أنها وثنية لا تمت بصلة إلى دوحة الديانات الإبراهيمية التوحيدية.

نتيجة كل هذا التعقيد، فإنه من السهل تقبل الصعوبة التي يجدها الكثيرون (غربيون وعرب) في تفهم ذلك البلد، هي إيران، حيث الظاهر لا يشبه الباطن، حيث نسمع تصريحات الرئيس أحمدي نجاد ذات الصوت المرتفع التي تهدد بمحو إسرائيل من الخارطة بينما يناور الإيرانيون في الوقت نفسه ببرود تام ومهارة في جنوب لبنان والعراق وسوريا وأفغانستان...الخ، مجبرين الأميركان على طلب الجلوس إلى طاولة التفاوض معهم، وهي البلد الذي يجمع بين نظام جمهوري غربي حديث وبين رؤية دينية مذهبية فريدة لا تجدها في مكان آخر، هناك تتحالف الرغبة بإحياء إمبراطورية قومية زائلة مع شعور بقدر تاريخي يمنح إيران امتياز قيادة الشيعة في العالم الإسلامي ككل، هو المكان الذي يتم فيه باستمرار طرح السؤال الشائك المتعلق بهوية البلد وتوجهه الحضاري : أهو الإسلام أم إيران؟

غني عن الذكر هنا أن المصالح الاقتصادية والسياسية هي ما يحرك توسع وتمدد النفوذ الإيراني، لكنك لا تستطيع فهم ما يدور بخلد صانع القرار الإيراني في تهران (واقترح أن نكتبها هكذا من الآن فصاعداً، فهي تكتب هكذا، وتقرأ بكسر التاء، ولا أدري لماذا إصرار إعلامنا العربي على كتابتها بالطاء رغم أنها تكتب بالحروف ذاتها) بدون أن تعني شيئاً من معادلة التناقض هذه المتغلغلة في الروح الإيرانية. سنتحدث في الأسبوع القادم عن التقاليد السياسية الإيرانية.

Email