لكل مقام مقال

ت + ت - الحجم الطبيعي

أحداث المشهد السياسي الفلسطيني خلال الأسبوعين المنصرمين قدمت نموذجين للرد على تعطل العملية السياسية، والسياسات الإسرائيلية التي تمعن في مصادرة الحقوق الوطنية الفلسطينية عبر تكثيف الاستيطان وتهويد القدس، وتوغل في العدوان على الشعب الفلسطيني.

النموذجان يعكسان على نحو معين ما يصر البعض على تسميته برنامج المقاومة وبرنامج المفاوضة، وهي المعادلة التي يجري استخدامها لتبرير الانقسام الفلسطيني الذي لا يزال تتعثر محاولات إنهائه لصالح استعادة الوحدة.

بداية لابد من التنويه إلى أن العدوان الاستيطاني التهويدي الذي تشنه إسرائيل في الضفة الغربية بما في ذلك القدس، عدوان دائم على مدار الساعة، وهو الفصل الأشد خطورة على القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني وحقوقه وأرضه، بينما يحضر العدوان العسكري الذي تمارسه إسرائيل بين الحين والآخر على قطاع غزة.

معلوم أن إسرائيل أرادت منذ عقود التخلص من "عش الدبابير" الذي تمثله غزة، وتفسير ذلك لا يعود فقط لتميز الدور الكفاحي لسكان القطاع، أو بسبب خشية إسرائيل من آثار الكثافة السكانية المرتفعة، وإنما في الأساس، وفوق ذلك، لأن إسرائيل لا تملك ادعاءات تاريخية أو توراتيه تجاه القطاع، بعكس أطماعها في الضفة الغربية، التي لا تزال حتى الدوائر الرسمية الإسرائيلية تسميها "يهودا والسامرة".

بين ليلة وضحاها، اتخذ شارون وحكومته عام 2005 قرار إعادة الانتشار من قطاع غزة، وتفكيك تسع عشرة مستوطنة أقيمت فيها، لكن الأمر من غير الممكن بل من المستحيل أن يتكرر في الضفة الغربية، التي تحولت بعض المستوطنات اليهودية فيها إلى مدن كبيرة مثل "أريئيل".

هذا التباين بين المخططات والادعاءات الإسرائيلية في الضفة الغربية مختلف بالتأكيد عن قطاع غزة، من حيث اعتماد الأخيرة أسلوب المقاومة الذي يقوم على استخدام الصواريخ، والعمليات العسكرية المحدودة والحدودية في بعض الأحيان؟

يذهب السؤال إلى الظلم الذي يمارسه الفلسطينيون ضد بعضهم البعض لتبرير الانقسام، ولتبرير الخلاف، رغم أن الكل معني، والكل مسؤول بدرجات متفاوته عن مجابهة المخاطر الإسرائيلية في الضفة كما هو الحال في قطاع غزة.

نتحدث عن نموذجين في المشهد السياسي الفلسطيني، الأول تقدمه غزة التي واجهت مؤخراً حلقة جديدة من حلقات التصعيد العدواني العسكري الإسرائيلي التي اندلعت في التاسع من الشهر الجاري وتوقفت في الثالث عشر منه، وسقط جراءها سبعة وعشرين شهيداً، ونحو مئة جريح فلسطيني.

إسرائيل بادرت إلى العدوان بدون مقدمات، وأرادت تحقيق أهداف معينة، لكنها لم تتعرض لانتقادات واسعة وحاسمة على المستوى الدولي ولا حتى على المستوى العربي، إلا حين صدور بيان مجلس الشعب المصري في ثالث أيام العدوان، والذي دعا إلى طرد السفير الإسرائيلي من القاهرة وسحب السفير المصري من تل أبيب، وإلى إنهاء اتفاقية توريد الغاز المصري لإسرائيل ومراجعة اتفاقية كامب ديفيد.

الولايات المتحدة كانت أبدت سعادتها "بالحرب على الإرهاب"، وأوروبا صمتت والرباعية الدولية اكتفت بمطالبة الطرفين بوقف العنف، أما مجلس الأمن الدولي فلم يكترث للشكوى الفلسطينية.

أصحاب برنامج المقاومة، الذين ردوا بالصواريخ على إسرائيل والذين لم يردوا وآثروا إبداء الصبر والحكمة والالتزام بالتهدئة، هؤلاء تحدثوا عن انتصار المقاومة، وتحدثوا عن تحقيق معادلة الردع، ذلك أن الصواريخ الفلسطينية تؤدي إلى تعطيل الحياة الطبيعية لنحو مليون إسرائيلي يقعون في مرماها.

يعرف هؤلاء وقد لا يعرف الكثير من المصفقين خارج فلسطين لهذه الادعاءات، أن إسرائيل تملك من القدرات العسكرية ما يفوق قدرات عدد من الجيوش العربية.

النموذج الآخر، يقدمه من يطلق عليهم أصحاب خيار المفاوضة، وتجلى لك خلال أيام القليلة المنصرمة في إجراءين، الأول تمثل في تقديم ممثل إسرائيل في المجلس العالمي لحقوق الإنسان إبراهيم خريشة، مشروع قرار لتشكيل لجنة تقصي حقائق دولية بشأن الاستيطان، على غرار لجنة التحقيق الدولية التي عرفت باسم رئيسها غولدستون.

الطلب الفلسطيني المدعوم من المجموعتين العربية والإسلامية، يشكل عنوان اشتعال معركة خطيرة بالنسبة لإسرائيل، فالقرارات في المجلس العالمي لحقوق الإنسان تؤخذ بالأغلبية، وهناك لا مجال للولايات المتحدة أو غيرها لاستخدم الفيتو، ولا تأثير حاسم لنفوذها أو للنفوذ الإسرائيلي مما يرجح صدور هذا القرار، الذي يتم اتخاذه وتنفيذه استناداً إلى قرارات الشرعية الدولية.

أما الإجراء الآخر، يتصل بقرار الرئيس محمود عباس والقيادة الفلسطينية، بتقديم رسالة لنتنياهو وحكومته، ويجري توزيعها على عدد من زعماء ورؤساء الدول، تتضمن اقتراحات بشأن المناطق الاستيطانية، وبشأن منطقة غور الأردن، التي ترفض إسرائيل إخلائها لدواعي وادعاءات الأمن الاستراتيجي. الرسالة هي آخر ما لدى الفلسطينيين لكي يُشهِّدوا العالم، بأنهم الأشد إخلاصاً لعملية السلام.

وبأن إسرائيل هي وحدها التي تتحمل مسؤولية تعطيل هذه العملية. إنها أشبه بالبلاغ الأخير، الذي يؤسس لمرحلة مختلفة من الاشتباك بمختلف أشكاله إلا الاشتباك المسلح، لمواصلة فضح السياسات الإسرائيلية المدعومة كلياً من الإدارة الأميركية، التي تواصل تقديم المزيد من المكافآت لإسرائيل، وتخضع لأبشع أنواع الابتزاز الذي تمارسه عليها حكومة نتنياهو.

الإدارة الأميركية التي تدرك أبعاد الرسالة الفلسطينية، سارعت للطلب من الرئيس عباس صرف النظر عنها، لأنها كما يقول الموقف الأميركي، ستؤدي إلى استفزاز إسرائيل، وربما تدفعها إلى الرد بما يؤجج الصراع، وفي هذه الحالة فإن الولايات المتحدة ستقع في حرج شديد فيما يستعد رئيسها لخوض معركة الانتخابات الرئاسية قبل نهاية هذا العام.

الرسالتان الفلسطينيتان إلى المجلس الدولي لحقوق الإنسان وإلى نتنياهو وزعماء العالم، تقدمان نموذجاً للمقاومة غير المسلحة، وتلحقان أذى شديدا بكل من إسرائيل والولايات المتحدة، ومن شأنهما تأجيج الصراع، وتوسيعه ليشمل كل الدوائر السياسية العربية والإسلامية والدولية.

وقد تدفعان إسرائيل لارتكاب جرائم حرب، فيما تدفعان الإدارة الأميركية لتصعيد ضغوطاتها على الفلسطينيين، الأمر الذي من المرجح أن يولد تناقضات داخل الرباعية الدولية لصالح الفلسطينيين وقضيتهم.

نموذجان في النضال الفلسطيني، إن لم يكن الفلسطينيون مضطرون للمفاوضة بينهما فإنهم مضطرون لتحقيق تكامل كفاحي يستدعي إعادة توحيد صفوفهم، وتوحيد خطابهم، وإذا كان بوسع البعض الادعاء بأنه يمكن أن يتحول قطاع غزة إلى "هانوي" بالنسبة للضفة، فإن الانقسام والفصل الجغرافي لا يسمح بمثل هذه المقاربة.

 

Email