سوريا وورطة الدبلوماسية الروسية

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل من المنظور أن تضحي روسيا بعلاقتها مع الرئيس بشار الأسد في دمشق.. وبالتالي التضحية بالنظام البعثي نفسه في سبيل استعادة رضا الشعب السوري وكبح غضب الشعوب والأنظمة العربية؟ علاقة موسكو بالنظام السوري مبنية على رابطة استراتيجية متينة وعريقة. لكن هذه الحقيقة لا تنفي حقيقة أخرى أعظم شأناً.

وهي أنه على مدى الأحد عشر شهراً الأخيرة منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية العارمة في سوريا، والقمع الدموي اليومي الذي تمارسه قوات النظام، تورطت الدبلوماسية الروسية في مأزق. فإن واصلت سياستها الراهنة بدعم النظام وحمايته من السقوط فإنها تخاطر بخسران الرابطة الاستراتيجية في حالة سقوط النظام فعلاً وحلول نظام جديد سيكون من المؤكد معادياً لروسيا. ولن يقتصر الأمر على ذلك. فالعداء لموسكو الذي يشمل غالبية الدول العربية راهناً سوف يتصاعد فورانه ويتسع نطاقه.

خلال العقود الستة الأخيرة تعرضت العلاقة بين روسيا والعالم العربي لتقلبات مصيرية.

حتى منتصف خمسينات القرن الماضي لم يكن للاتحاد السوفييتي نفوذ ــ أو حتى مجرد وجود ــ يذكر في الساحة السياسية العربية، رغم أن تلك كانت مرحلة العد التنازلي للاستعمار الأوروبي التقليدي للعالم العربي، بشقيه البريطاني والفرنسي. مصر الناصرية هي التي فتحت الباب للاتحاد السوفييتي على أوسع نطاق ليكون القوة الدولية المناوئة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، كحليف استراتيجي للعالم العربي في سياق الصراع العربي ــ الإسرائيلي، والدعم الأميركي للدولة اليهودية.

كانت هناك قضيتان هما اللتان مهدتا لتعاظم الدور السوفييتي واستمراره بعنفوان حتى قرب منتصف عقد السبعينات: قضية تزويد العرب بالسلاح.. وقضية تمويل مشروع السد العالي في مصر. فقد توجه عبد الناصر صوب موسكو للحصول على أنظمة أسلحة متقدمة من ناحية، وعلى تمويل لبناء السد العالي من ناحية أخرى. وفي الحالتين كان تجاوب الاتحاد السوفييتي سريعاً وسخياً ودون شروط.

ولكي نستوعب هذين التحولين فإن علينا أن نستحضر إلى الأذهان أن التوجه الناصري صوب موسكو كان بسبب رفض أميركي. فقد رفضت واشنطن الطلب المصري في الحالتين. وبالتحالف مع مصر الناصرية تمكنت القيادة السوفييتية من التوسع في أنحاء العالم العربي. فقد دعمت ابتداء من عقد الخمسينات المد الثوري في كل من العراق وسوريا. وعن طريق مصر كانت موسكو تزود الثورة المسلحة في الجزائر بالسلاح.

وعن طريق مصر الناصرية أيضاً امتد الدعم السوفييتي على الصعد العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، إلى الثورة في جنوب اليمن ضد قوات الاستعمار البريطاني خلال عقد الستينات.

وهكذا تطورت واتسعت العلاقة السوفييتية مع العرب على أساس استراتيجي ضد عدو ثنائي مشترك: التحالف الأميركي ــ الإسرائيلي. والتاريخ يسجل أن الانتصار الذي حققته مصر في حرب أكتوبر 1973 كان بإمدادات سلاح سوفييتي.

ماذا جرى إذاً على طريق تفكك هذه الرابطة الاستراتيجية؟

ربما كان السبب يتمثل في رحيل عبد الناصر عن الدنيا. لكن على أية حال هناك تاريخان لهما دلالة عظمى: العام 1979 والعام 1989م. نهاية السبعينات تميزت بمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل. ونهاية الثمانينات كانت إيذاناً بالتفكك الوشيك للاتحاد السوفييتي نفسه.

كما هو معلوم فإن المعاهدة المصرية ــ الإسرائيلية أبرمت في عهد الرئيس أنور السادات. وفي الحقيقة كان السادات عندما تسلم زمام السلطة العليا بعد رحيل عبد الناصر في عام 1970 قد اعتزم تصفية التراث الوطني الناصري في الداخل، وبالتالي تصفية التحالف المصري ــ السوفييتي، تمهيدا لتحول مصر إلى تحالف جديد مع الولايات المتحدة، كتمهيد لتصالح مصري مع إسرائيل.

الشاهد في هذه التحولات الجسيمة أن روسيا دخلت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي مرحلة وهن وانكماش وضمور، وفقدت مكانتها كقوة دولية، وأن العالم العربي دخل مرحلة مماثلة من الضعف في ظل كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة.

وخلال العقد الأخير بدت روسيا في عهد فلاديمير بوتين وكأنها استيقظت لتسعى إلى استعادة مجدها السوفييتي في العالم العربي. والسؤال الذي يُطرح في هذا المنعطف هو: هل تتناقض الاستراتيجية الروسية الجديدة مع تيار الثورات العربية الرامية إلى إحلال الديمقراطية؟

هذا هو السؤال الأكبر الذي يتوجب على موسكو أن تجيب عليه بصورة عملية من خلال تعاملها مع الوضع السوري الملتهب. وهنا نتساءل أيضاً: هل تدرك القيادة الروسية أنها باتت في سباق مع الزمن، وأن العدل التنازلي لزوال النظام البعثي في دمشق قد بدأ فعلًا؟

 

Email