داخل العقل الإيراني (1)

ت + ت - الحجم الطبيعي

هي إيران مالئة الدنيا وشاغلة الناس، إحدى القوى الإقليمية التقليدية الثلاث الكبرى في الشرق الأوسط، وهي مركز حضاري وثقافي ضخم على مستوى آسيا والعالم.

وعندما يذكر المذهب، فإنها بالطبع أكبر دولة شيعية في العالم الإسلامي.

لإيران امتدادات عدة، فهي جسر بري بين غرب آسيا وهضبة الأناضول والبلقان ومن بعدهما أوروبا الشرقية، وهي الرابط الحيوي بين بحر قزوين وآسيا الوسطى من جهة، والخليج العربي والمحيط الهندي من جهة أخرى، ولا ننسى أن الهضبة الإيرانية كانت دائماً نقطة الالتقاء والصراع والانصهار بين التأثيرات الثقافية المختلفة: اليونانية القديمة والهندية والصينية والعربية والتركية والغربية الحديثة.

ورغم آلاف الدراسات والأبحاث والكتب التي تناولت الشأن الإيراني توصيفاً وفهماً وتحليلاً وتفكيكاً، إلا أننا نجد أن العالم، وبالذات منذ الثورة الإسلامية عام 1979، يعجز عن فهم الصور الخارجة من هذا البلد المعقد والمتناقض، لكن الحقيقة المعيبة أننا نحن العرب أكثر من عجز عن فهم هذا البلد البعيد والقريب منا في الوقت نفسه.

في هذا السياق فإن جدار الصمت والجهل العربي المحيط بإيران، يبدو شاهقاً لدرجة لا تسمح لنا إلا بتداول مجموعة من الكليشيهات الشعبوية والديماغوجية، التي تقوم بمهمة قراءة وتفسير الحدث الإيراني، والتي باتت تحظى بقبول وتسليم لا يقبلان المراجعة أو النقاش بين صفوف جماهير العرب، وحتى الكثير من المثقفين وصناع الرأي العام، مثل: الكره والحقد الفارسي المرضي ضد كل ما هو عربي، أو احتمال وجود حلف إسرائيلي ـ يهودي/ إيراني ـ فارسي غير معلن ...الخ.

والحقيقة أن العلاقة بين الطرفين العربي والإيراني شبه صماء، أقول هذا رغم أن التاريخ المشترك بيننا وبينهم يبدو كقدر لا فكاك منه، قدر تكوّن من حتميات الجغرافيا التي جعلت من مياه الخليج الهادئة ممراً هادئاً ومتواطئاً بعض الأحيان، لهجرات البشر والعقائد والمذاهب والأفكار، بل والأنظمة والبنى السياسية بين الضفتين الإيرانية والعربية، وهو قدر صاغته كذلك الشراكة الفارسية ـ العربية في صنع العصر الذهبي للحضارة الإسلامية خلال الفترة العباسية.

وكما لا ينسى الإيرانيون أن عرب الجزيرة أدخلوا الإسلام لبلادهم في القرن السابع الميلادي، فهم لا ينسون كذلك أن علماء جبل عامل من جنوب لبنان، كان لهم الدور الفيصل في إدخال التشيع لبلادهم خلال القرن السادس عشر الميلادي.

إذن، التداخلات الجيوسياسية والجيوثقافية بين العرب والفرس، قديمة وعريقة وذات تأثيرات ومفاعيل دائبة الحركة ولا تعرف الاستكانة، ونحن اليوم على امتداد الرقعة العربية في الخليج أو في الهلال الخصيب، نعيش آثار تلك التداخلات وما ينتج عنها من تناقضات تؤثر على التوازنات الداخلية المذهبية والإثنية في عدد من الدول العربية، وتؤثر على مجمل التوازن الجيوسياسي العربي ـ الإيراني، المختل حالياً لصالح إيران.

لماذا لا نفهم إيران والإيرانيين؟ لنحاول البدء بفهم العقلية الجماعية التي يفكر بها الإيرانيون، فلنفهم النظرة الإيرانية للعالم والآخرين ولأنفسهم، فلنحاول سبر أعماق العقل الإيراني، ذلك العقل المعقد ذو الطبقات المتعددة، حيث الجروح الغائرة ومشاعر قومية متطرفة لدرجة الفاشية، وحزن التشيع والرغبة المتقدة بشيء من إمبريالية الأزمنة القديمة.. كيف يفكر الإيرانيون؟ ماذا يريدون منا ومن الآخرين (الغرب، وبالأدق أمريكا)؟

يمتلك الفرس ذاكرة تاريخية قوية لا تعرف الصدأ، ويمتلكون إحساساً درامياً حياً بتاريخهم. اجلس مع أي إيراني ذي تعليم جيد، وسيحكي لك عن فترات تاريخية نائية قلما نفكر فيها، سيحكي لك عن الشعوب الإيرانية القديمة التي عاشت في العصر الحديدي، سيذكر أمامك أن العالم الإيراني (كما العالم العربي) في أوجه، امتد من غرب الصين إلى سواحل البحر الأسود، والأهم من هذا كله أنه سيحكي لك عن الدين الزرادشتي الذي انتشر في إيران والإمبراطورية الفارسية، وساد قبل دخول الإسلام لها بألف عام وزيادة، وكيف تحمل الروح الإيرانية إلى اليوم آثار ذلك الدين بشكل لا تخطئه العين، وإن تستر تحت التشادور أو الحجاب الإسلامي.

Email