السودان وأميركا بين الأمس واليوم (2 ــ 2)

ت + ت - الحجم الطبيعي

مرتكز الأجندة الأيدولوجية التي كان يتبناها زعيم «الحركة الشعبية» جون قرنق كان خصم السودان الموحد عن محيطه العربي والإسلامي. وهذه الأجندة كانت متطابقة تماماً مع الرؤية الاستراتيجية الأميركية للسودان ومستقبله. بهذه الروح عمدت الولايات المتحدة إلى ترتيب العملية التفاوضية بين حركة قرنق والحكومة السودانية وفرض نفسها كوسيط ليس أكثر «نزاهة» من وساطته بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. وقبل ذلك عارضت واشنطن الوساطة المصرية ــ الليبية لمنع أي تدخل عربي في المشكلة السودانية. والسؤال الذي يُطرح في هذا المنعطف هو: لماذا وافقت الإدارة الأميركية في سياق رعايتها للعملية التفاوضية على سودان موحد؟

للإجابة على هذا التساؤل علينا أن نسترجع إلى الأذهان أن وثيقة اتفاقية السلام التي انتهت إليها العملية التفاوضية في ضاحية نيفاشا الكينية في عام 2005 اشتملت على نص يمنح بمقتضاه شعب جنوب السودان حق تقرير المصير بين خياري الوحدة والانفصال. لقد أرادت من دعمها لوحدة السودان في بداية الأمر أن تمثل شراكة الحركة الجنوبية في السلطة المركزية للسودان الموحد كابحاً ضد التوجه العربي والإسلامي للدولة الموحدة. لكن ما إذا لو فشل هذا المخطط؟ هذا هو السؤال الذي جعل الوسيط الأميركي يدعم أيضاً نص تقرير المصير لأهل الجنوب ليكون انفصال الجنوب عن الشمال خياراً بديلاً. وهذا ما جرى بالفعل عندما وقع اختيار شعب الجنوب على الانفصال من أجل إقامة دولة جنوبية مستقلة تماماً عن الشمال.

لقد عمدت الولايات المتحدة إلى تشجيع أهل الجنوب على اختيار الانفصال حتى قبل أن تنتهي المرحلة الانتقالية المنصوص عليها في اتفاقية السلام بعد أن تبين لها من خلال الواقع التطبيقي للاتفاقية أن محو الهوية العربية الإسلامية للشعب في الشمال ليس أكثر من حلم رومانسي.

وهكذا حتى قبل إجراء استفتاء تقرير المصير شرعت إدارة الحكم الذاتي في الجنوب بدعم أميركي فاضح في اتخاذ تدابير وإجراءات وكأن الجنوب صار بالفعل دولة مستقلة. وعلى هذا النحو أنشأت إدارة الحكم الذاتي «مكاتب» في بعض العواصم الأجنبية تقوم عمليا ًمقام سفارات. وكان في مقدمة هذه العواصم واشنطن ونيروبي. وعندما فرضت الإدارة الأميركية عقوبات اقتصادية على السودان فإنها استثنت الجنوب. وبتوافق مع الولايات المتحدة سمحت إدارة الحكم الذاتي لإسرائيل بفتح قنصلية إسرائيلية في العاصمة الجنوبية جوبا.

تاريخيا كان لإسرائيل حضور عملي في المشهد الجنوبي منذ المرحلة الثانية من حركة التمرد المسلح خلال عقوبات ستينات القرن الماضي. ورد ذلك في المذكرات المنشورة للفريق جوزيف لاقو قائد الحركة آنذاك. ففي تلك المذكرات سرد الفريق لاقو كيف كانت إسرائيل تمد الحركة بالأسلحة وتتولى تدريب كوادر قوات التمرد في معسكرات أقيمت على أراضي أوغندا قرب الحدود مع السودان.

وهنا يبرز سؤال ثانٍ: ما هي سياسة الولايات المتحدة نحو دولة جنوب السودان المستقلة والعلاقات بينها وبين جمهورية السودان؟

ببساطة جاءت هذه السياسة كامتداد طبيعي للسياسة الأميركية المطبقة قبل انفصال الجنوب. وفي مقدمة الأهداف الاستراتيجية العليا لهذه السياسة زعزعة الاستقرار الأمني للدولة الشمالية لاستنزافها وإضعافها ضمن الإطار العام للإستراتيجية الأميركية ــ الإسرائيلية في أفريقيا جنوب الصحراء.

هذا هو المشهد الذي نراه أمام أعيننا الآن: حكومة دولة الجنوب تشعل بعون إسرائيلي ــ أميركي حربين في منطقتين تابعتين للسودان الشمالي.. إحداهما في ولاية جنوب كردفان والأخرى في ولاية جنوب النيل الأزرق.

والسؤال الأخير الذي يُطرح هو:

لماذا كل هذا العداء الأميركي لجمهورية السودان؟

ما يطرأ فوريا على الخاطر هو أن واشنطن تستهدف التوجه الإسلامي لهذه الجمهورية. لكن هذه مجرد ذريعة للتغطية على السبب الأساسي الذي تحرص الإدارات الأميركية المتعاقبة على عدم التطرق إليه علنا.

ما يؤخذ أميركيا على جمهورية السودان هو نهجها الاستقلالي في الساحتين الإقليمية والدولية ــ ذلك النهج الذي جعلها تقيم شراكة استراتيجية مع الصين على سبيل المثال على أساس تكافؤ المصالح.

وما تخشاه الولايات المتحدة هو أن يشكل نجاح هذا النهج الاستقلالي نموذجا تحتذيه دول أفريقيا الأخرى.

 

Email