السودان وأميركا بين الأمس واليوم

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل بضعة شهور دعت الإدارة الأميركية على لسان وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون كلاً من جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان إلى التعاون من أجل استثمار السلام لصالح التنمية المبرمجة في الدولتين الجارتين.

كما ثبت لاحقاً كانت تلك الدعوة الأميركية «تكتيكا» للتمهيد لإزاحة القناع عن الموقف الحقيقي للولايات المتحدة. فواشنطن تقول الآن للعالم إن المرتكز الأساسي لسياسة جمهورية السودان هو زعزعة استقرار الجمهورية الجنوبية بشن حرب عدوانية عليها.

فماذا وراء هذا الاتهام الخطير؟ وما هي الأجندة الأميركية تجاه العلاقة الحاضرة والمستقبلية بين الدولتين؟ وهل تختلف الأجندة عن أجندة الماضي قبل انفصال جنوب السودان.

حتى عام 1989 لم تكن قضية جنوب السودان ذات أولوية خاصة للولايات المتحدة مع تعاقب الإدارات والرؤساء. ولكي نستبين مدى طول الغياب الزمني الأميركي عن هذه القضية وتطوراتها وتداعياتها فإن علينا أن نستعيد إلى الأذهان أن مشكلة جنوب السودان اندلعت حتى قبل استقلال السودان في عام 1956، فقبل هذا التاريخ بعام واحد وقعت حركة تمرد عسكري داخل الجنوب بقيادة ضباط وجنود جنوبيين.

ورغم أن هذه الحركة قمعت في حينها بواسطة قوات الحكومة المركزية إلا أن جنوب السودان ظل في حالة شبه حرب تطورت إلى حرب شاملة حتى عام 1972 عندما أبرمت اتفاقية سلام بين الحكومة وحركة التمرد الثانية في ظل نظام حكم ذاتي للجنوب. وهكذا عاشت الجنوب في حالة سلام لمدى 11 عاماً.

في عام 1983 تجددت الحرب على يد حركة تمرد ثالثة بمسمى «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة جون قرنق. وعلى مدى 22 عاما متصلة كانت تدور رحى الحرب بشراسة في أراضي الجنوب إلى أن توقفت رسميا في عام 2005 بموجب اتفاقية السلام الشامل بين الحكومة والحركة.

والسؤال المحوري الذي يُطرح هو: لماذا نأتي الولايات المتحدة بنفسها عن المسرح الدامي السوداني فلم تشأ أن تدخل على الخط إلا في عام 1989 أي بعد 34 عاماً من الاندلاع التمرد الجنوبي الأول في منتصف الخمسينات؟

للإجابة على هذا التساؤل الكبير علينا أن نستذكر أن عام 1989 هو العام الذي شهد قيام سلطة «نظام الإنقاذ» اثر العملية الانقلابية التي قامت «الجبهة الإسلامية القومية».

لم يتبن نظام الإنقاذ أية سياسات أو إجراءات استراتيجية ضد الولايات المتحدة ومصالحها لكن مجرد تبنيه منهج حكم إسلامي كان كافياً لكي تصنفه واشنطن تلقائيا كخصم على الساحتين الإقليمية والدولية. وبذلك قررت إدارة جورج بوش الأب ومن بعدها إدارة بيل كلينتون ترجمة تصنيفها إلى سياسة عدوانية شاملة ضد النظام ومحاصرته على جميع الأصعدة.

كان المدخل الجاهز والملائم للولايات المتحدة هو عقد تحالف استراتيجي مع حركة التمرد بقيادة قرنق. ومع تطور الحرب واتساع نطاقها كان التدخل الأميركي يتصاعد.

كان أول مظهر من مظاهر التدخل هو تأليب دول الجوار واستقطابها ضد نظام الإنقاذ. وخلال عقد التسعينيات برزت بشكل خاص اريتريا أفورقي التي كانت تمر عبرها المساعدات العسكرية إلى قوات حركة التمرد.

وبإيعاز من وزيرة خارجية بيل كلينتون السيدة مادلين أولبرايت قامت حكومة اريتريا بترتيب إنشاء تحالف بين حركة قرنق وأحزاب المعارضة السودانية الشمالية.

لكن مع ذلك ومع قرب نهاية عقد التسعينيات وحلول العقد الأول للألفية الثالثة فاجأت الإدارة الأميركية العالم بإعلان سياسة جديدة تماما: سياسة وقف الحرب في جنوب السودان. ومنذ ذلك الحين أخذت الأمور تسير سرعان في اتجاه إحلال السلام.

لماذا هذا «الانقلاب» الأميركي؟

السياسة الانقلابية بنيت على تقرير وضعه خبراء مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن وتبنته على الفور إدارة الرئيس جورج بوش الابن.

لقد أوصى هؤلاء الخبراء بوقف الحرب بأسرع وقت ممكن والدخول في عملية تفاوضية بين الحكومة السودانية وحركة قرنق. كانت توصية مبنية على تحذير بأن حكومة السودان كانت على وشك حسم الوضع في الجنوب عسكريا.

وهنا يبرز سؤال: من حالة الحرب إلى حالة السلام.. هل تغيرت الأجندة الأميركية تجاه السودان ومستقبله.

 

Email