الخروج من المناطق النائية

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك لقطة فريدة للممثل العالمي توم كروز وهو جالس بكل أريحية على قمة برج خليفة، هذه اللقطة أثارت لدي مكامن الحيرة وسؤالاً قديماً جديداً؛ لماذا وصل توم كروز إلى القمة فيما ظل آخرون كثر ينظرون إليه بحسرة وتمنٍّ؟ ما الذي يجمع بين بيكاسو والمتنبي وستيف جوبز مثلاً؟

لست مع المقارنات العشوائية بين هذه الأسماء الكبيرة، فلكل منهم مسار مختلف في الحياة العامة أو الخاصة. ولكن عندما تقرأ في دراسة أعدتها جامعة هارفارد، أن نسبة الناجحين العصاميين في المجتمع الأميركي لا تتجاوز 3% من مجموع السكان، فلك أن تعذر حيرتي وتساؤلي.. وهذه أميركا، فما بالك بمجتمعاتنا العربية، حيث التعليم أقل انتشاراً وتطوراً، وحيث يقل الاحتفاء بالمواهب والطاقات الناشئة!

بالنسبة إلى الرجل العبقري لي كوان يو، رئيس وزراء سنغافورة السابق وصانع نهضتها الحديثة، فإن تمايز أفراد بعينهم عن الآخرين يحدث بسبب الجينات الوراثية، أو إن أردتم الوضوح أكثر بسبب أفضلية عرق على آخر. لا يعبأ لي كوان يو بأن نتهمه بالعنصرية، فقناعته راسخة كما يقول، حيث إنه راقب أداء مختلف المسؤولين والوزراء من الصينيين والهنود والمالاي (وهذه هي الأعراق المكونة للمجتمع السنغافوري)، فوجد تفوقاً كاسحاً للعرق الصيني (الذي ينتمي إليه) على حساب الأعراق الأخرى، لكن إن نحن آمنا بفكرة لي كوان يو، وهي عنصرية حتماً، فإننا سنهبط أوتوماتيكيا في ترتيب الشعوب والأعراق إلى المنازل الأخيرة!

تفسيرات نجاح الأفراد تتنوع، فخبراء التعليم سيرجعون الأمر إلى المناهج الدراسية المتأرجحة بين الحفظ والحشو، أو الفهم وطرح الأسئلة، أو العلاقة بين المدرس والطالب، أو حتى طريقة تصميم مبنى المدرسة أو الجامعة.. الخ. أما الباحثون في علوم الإدارة والتطوير الذاتي، فسيغمروننا بجملة من التحليلات المتعلقة بالعمل المؤسسي، أو منهجية التغيير الإداري، أو صفات الشخصية القيادية، أو درجة وعي أفراد المجتمع بفنون التخطيط المختلفة، فأنت تستطيع أن تضع خطة مفصلة للسنوات الخمس القادمة من عمرك أو العشر أو العشرين.. ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل هناك من يوصي بوضع خطة لمدة مائة عام أو خمسمائة عام، حتى يستمر تأثيرك في الأرض بعد وفاتك بوقت طويل!

كنت موجوداً في مجلس أحد الأصدقاء أتابع نقاشاً حامياً عن السؤال نفسه، كعادتي احتفظت بصمتي، طفقت أتأمل في وجوه أصدقائي، أغلبهم من جيلي، ولدوا في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، منهم الضابط في القوات المسلحة والموظف في الدائرة الحكومية وصاحب التجارة والعقارات والمدرس الجامعي، جميعهم متزوجون، وجميعهم كذلك أصابوا درجات مختلفة من النجاح في حياتهم.

تشعبت مداخلاتهم في الموضوع نفسه الذي نتحدث عنه، لم يتركوا حجة إلا وذكروها. هنا أردت أن أدلي دلوي أيضاً، فذكرت قناعتي: "الإنسان الناجح أو المبدع ـ سمّه ما شئت ـ هو من أتقن الاستماع لصوته الداخلي، هو من عرف كيف يسافر إلى المناطق النائية في أحلامه، تلك الرحلة الطويلة أحياناً والقاسية في بعض الأحيان، والتي ُتهديه في نهاية المطاف خارطة الطريق اللازمة للوصول إلى وجهته المنشودة".

تحزنني كثيراً تلك النظرة المجتمعية العربية القاسية للأفراد الباحثين عن أحلامهم.. إن قراءة متمعنة في تاريخ الثقافات، تبين أن الروح الفردية الباحثة عن تحقيق أحلامها على أرض الواقع، كانت ولا تزال المحرك الرئيس وراء أية نهضة حضارية في كل العصور. إن الحضارة الغربية الحديثة، بكل رونقها وبهائها، لم تستمد قوتها من تلاقح الأفكار مع الحضارات الأخرى فحسب، أو من الإنفاق السخي على البحث العلمي أو الاهتمام بالجامعات ومعاهد الأبحاث التخصصية، بل في إعلاء قيمة الفرد وحقه في تحقيق ذاته وأحلامه.

لكن هذه الصفة الحميدة لم تقتصر على الحضارة الغربية، حيث إن حضارتنا العربية الإسلامية احتفلت بالفرد الحالم المتسائل ذي الهمة العالية، فكتب السير والتراجم تمتلئ بذكر من جابوا أنحاء العالم الإسلامي لطلب العلوم والفنون المختلفة، والبحث عن الفلسفات والأفكار الجديدة، وترجمة تراث الحضارات القديمة والزيادة عليها، وطرح الأسئلة الجريئة التي عبرت عن خلجات العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، الذي لم يكن الإيمان الراسخ يمنع فيه المسلمين من السفر عميقاً في جغرافيا الفكر الإنساني، ليتخطوا أحياناً ما يعتبره البعض "خطوطاً حمراً"، ليعودوا دائماً بأكثر النتاجات حداثةً وحيوية، التي أسست فيما بعد لعصر النهضة الأوروبية.

هذا البحث التواق للمعرفة، وإن لم يكتب له الاستمرار بين الأجيال المتأخرة من العرب، إلا أنه يعطينا الدافع كي نترك "دكة الاحتياط" التي يبدو أننا اعتدنا الجلوس عليها، ونسمح لأولئك المبدعين منا بممارسة حرياتهم الفردية وعيش أحلامهم على أرض الواقع، علنا ننضم لسباقات التنمية، ونخرج كأمة من المناطق النائية إلى مركز الحضارة مرة أخرى.

Email