المصير الفلسطيني بين معضلتين

ت + ت - الحجم الطبيعي

فلسطين هي قضية العرب المركزية. هذه جملة تبدو من الوهلة الأولى وكأنها قطعة من المحسنات البلاغية المأخوذة من كراسة إنشاء لأحد طلاب المرحلة الإعدادية. هكذا تراها الطبقة الحاكمة في أنحاء العالم العربي.. ليس عن جهل بقواعد الصراع المصيري في الساحة الدولية..

لكن عن تجاهل مقصود للتنصل من المسؤولية التاريخية. الزعامات العربية بما فيها زعامات فلسطينية تدرك أولا أن إسرائيل ما وجدت إلا لتتوسع في الوطن العربي.

وبنفس القدر فإنها تدرك من ناحية أخرى أن القيادات الإسرائيلية المتعاقبة واللاحقة تعلم أن الحركة اليهودية العالمية ما كان لها أن تستوثق أن إسرائيل قمينة بهذا الدور الأعظم دون مساندة أميركية تنطلق من شراكة استراتيجية بين هذه الحركة وطواقم الطبقة الحاكمة المتعاقبة في الولايات المتحدة.

هل هذا حديث قديم مكرور؟

نعم.. ولكن جددت الخوض فيه مقالة تحليلية مطولة للفيلسوف اليهودي الأميركي المعروف نعوم شومسكي نُشرت الأسبوع المنصرم على موقعه في الانترنت. ولأن هويته اليهودية لم تمنعه من أن يكون مفكراً مستقلاً فإن مقالاته التحليلية تتصف بقدر عظيم من المصداقية المبنية على أساس متين من الموضوعية العالمية.

الأدبيات المتنوعة المنشورة حول الصراع العربي - الإسرائيلي تتضمن الكثير عن التحيز السياسي الفاضح للدولة اليهودية لكن هذه الأدبيات - خاصة الجانب الإعلامي منها - تتجاهل في الغالب الوجه الديني للقضية من حيث الأجندة الصهيونية. والقيمة التي تتميز بها مقالات شومسكي هي أنها تسد فجوة كبيرة في هذا السياق.

في المقالة الأخيرة يتناول شومسكي هذا الجانب الخطير مطلقاً على الجانب الديني اليهودي للصراع «عوامل ثقافية».

وانطلاقا من هذا التصنيف يقول هذا المفكر اليهودي المتحرر إن «الصهيونية المسيحية» في بريطانيا والولايات المتحدة سابقة على الصهيونية اليهودية، وكانت ولاتزال ظاهرة نخبوية ذات توجهات سياسية بما في ذلك «وعد بلفور».

وعندما فتح الجنرال البريطاني ألينبي القدس خلال الحرب العالمية الأولى اطلقت عليه الصحافة الأميركية لقب «ريتشارد قلب الأسد» الذي كسب الجولة الأخيرة في الحروب الصليبية وطرد المسلمين منها - أي من القدس.. مما مهد للخطوة التالية وهي عودة «شعب الله المختار» إلى الأرض التي «وعدهم الله» بها.

ويعيد شومسكي إلى أذهاننا قول هادولد آيكس وزير الداخلية في عهد الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، إن الاستعمار اليهودي لفلسطين يعتبر إنجازا «لا مثيل له في تاريخ العنصر البشري».

ويذكر المفكر شومسكي أن مثل هذه المواقف الأميركية تجد لنفسها مكانا في سياق النظريات التي ظلت عنصرا قويا في الثقافة الشعبية والنخبوية الأميركية. ومن ذلك الاعتقاد بأن هناك تدبيراً إلهيا لمصير العالم وأن الولايات المتحدة تقوم بتنفيذ هذا التدبير بتكليف إلهي. من هنا نرى طبيعة الشراكة الأميركية - الإسرائيلية في أوضح صورها.

وهكذا فإن هذه الشراكة ليست مجرد تدبير استراتيجي صيغ على أساس توافق مصالح وقتية بالحسابات الجيو-سياسية وإنما هي رباط مصيري مبني على تخريجات دينية. وعلى هذا النحو فإن من العبث أن يحلم الفلسطينيون والعرب باسترداد الأرض الفلسطينية بوسائل التفاوض السلمي.

اللعبة العبثية - يقول شومسكي - تطرح كما يلي:

ان إسرائيل تسعى لتفاوض دون شروط مسبقة بينما الفلسطينيون يرفضون. أميركا وإسرائيل تطالبان بشروط مسبقة متشددة صممت بحيث إن المفاوضات تقود إلى أحد أمرين لا ثالث لهما: إما إلى استسلام فلسطين في القضايا الحاسمة أو إلى لا شيء.

وفي مقدمة الشروط المسبقة أن المفاوضات ينبغي أن تكون تحت إشراف الولايات المتحدة، ومن الشروط أيضا أن إسرائيل ينبغي أن تكون حرة في توسيع مستوطناتها غير الشرعية في الضفة الغربية. هناك إذن معضلتان:

أولا: أن قضية المصير الفلسطيني باتت مرتهنة إلى سباق مع الزمن. فالمد الاستيطاني يتسارع ويمتد.

ثانيا: أن أنظمة الحكم العربية تتعامل مع الولايات المتحدة وكأنها دولة صديقة. ولا تستثني من ذلك السلطة الفلسطينية.

وطالما بقيت هاتان المعضلتان على حالهما فإن قضية العرب المركزية تبقى قطعة من محسنات البلاغة اللفظية.

 

Email